محتالة على المسنجر – بقلم أمين الساطي

قصتي حدثت منذ حوالي ثلاث سنوات، عندما استلمت طلب صداقة على الفيسبوك من امرأة لا أعرفها. كعادتي فتحت صفحتها، وتمعّنت في صورتها، فوجدتها صبيةً جميلةً، ولاحظت أنها تعمل في مؤسسة مالية في بيروت. كانت صورتها بالنسبة لي كافية، لكي أعطي الموافقة دون تردد. بعد يومين استلمت منها رسالة على المسنجر، تطلب رقم إيميلي، لأن هناك موضوعاً خاصاً تريد أن تفاتحني به. في تلك الليلة لم أنم من شدة توتري، فلقد تصورت بأنها معجبة بي، وتودُّ أن تفاتحني برغبتها في قيام علاقة بيننا، حيث إنني لم أكتب على صفحتي بالفيسبوك بأنني متزوج من سيدة تركية.
 
 بعد يومين استلمت على الإيميل هذه الرسالة:
 عزيزي أيمن:
 قد تستغرب لماذا طلبت صداقتك، لأنك في الحقيقة تشبه عميلاً لدينا في البنك بشكل لا يصدق، وكأنكما توءمان، وبما أنني أعمل سكرتيرة للمدير العام بالبنك، فلقد خطر لي أن نستفيد معاً من هذا التطابق في الخِلْقة. إذا كنت جاهزاً وعندك الجرأة لكي تربح مئة ألف دولار، من دون جهد يذكر، فأنا على استعداد لمساعدتك، بانتظار جوابك بأسرع ما يمكن.
 
 ترددت كثيراً قبل الإجابة على هذا الإيميل، بسبب الخوف من المجهول، لكن طَمَعي بالحصول على المئة ألف دولار تغلب بالنهاية على خوفي، فرددت عليها:
 
 عزيزتي لمياء:
 استلمت إيميلك، أنا رجل متقاعد وظروفي المادية صعبة جداً، وراتبي التقاعدي بالكاد يكفيني، وصحتي لا تساعدني على القيام بالمغامرات، أرجو أن ترسلي لي بوضوح ما المطلوب مني.
 
المخلص لك أيمن
 
بعد عدة أيام استلمت منها الإيميل التالي:
 عزيزي أيمن:
 المهمة بسيطة وليس بها أدنى خطورة، بودّي أن تساعدني شخصياً، على سحب مبلغ من رصيد أحد عملاء البنك الذي أنا موظفة فيه، سأقوم بإعداد بطاقة هوية لبنانية باسمك الجديد، بعد أن ترسل لي صورتين بالمعايير المطلوبة لصور جوازات السفر العادية، وبعدها كل ما هو مطلوب منك أن تجهز نفسك للسفر إلى بيروت، وسأرسل لك تذكرة سفر على خطوط الميدل إيست، ذهاباً وإياباً من إستانبول إلى بيروت.
 
 فعلاً في الوقت المحدد وصلت إلى مطار بيروت، وجدت شخصاً في صالة استقبال القادمين يحمل لافتة عليها اسم أيمن، مربوع القامة ومفتول العضلات، شكله لا يوحي بالثقة، ساعدني في حمل حقيبتي، وقال لي: “المدام بانتظارك في السيارة” وقادني إلى سيارة فيات قديمة سوداء كانت واقفة بالخارج، بالقرب من باب مبنى الركاب، عندما فتحت باب السيارة أصبت بالدهشة، فالسيدة الجالسة وراء المقود سمراء غامقة في الخمسينيات من عمرها، ولا تشبه صورة لمياء الشقراء الجميلة التي عرفتها على الفيسبوك. صافحتني قائلة: أنا سميرة التي كنت تراسلها على المسنجر، فاكتفيت بهز يدها بامتعاض، ولم تسعفني الكلمات لأعبر عن مشاعري نحوها في تلك اللحظة.
 
لفّنا الصمت العميق طوال الطريق. عندما وصلنا بوابة فندق المريديان، أخبرتني المدام بأن هناك غرفة محجوزة ومدفوعةً أجرتها لمدة يومين باسمي الجديد ميشيل صويبر، ثم أعطتني هوية لشخصية لبنانية، ظهرت عليها صورتي واسمي الجديد، طلبت مني أن أعطيها جواز سفري، لكي تحتفظ به في أثناء إقامتي بالفندق، فرفضت ذلك بشدة، فتمالكت أعصابها وتغاضت عن طلبها، وتابعت حديثها: “لا شك بأنك تعبٌ من السفر، إن شاء الله غداً في الساعة الثامنة صباحاً، نجتمع على الفطور عندك في المطعم، لأشرح لك خطتنا بالتفصيل”. أعطتني مغلفاً كبيراً، قائلة: فيه دفعة على الحساب عشرين ألف دولار، مع صورة عن إمضاء السيد ميشيل صويبر، ومن المفروض أن تقضي الليلة وأنت تتمرن على تقليد هذا التوقيع، وستحصل على بقية المبلغ بعد الانتهاء من مهمتك في البنك.
 
 لم أرتح لهذه السيدة ولا لسيارتها القديمة، ولا للهجتها “الزغرتاوية”، التي ذكرتني بلكنة طليقتي اللبنانية القاطنة في بلدة الكورة، والتي كنت قد انفصلت عنها بالمحكمة، بتهمة الخيانة الزوجية. من عاداتي السيئة، أني تعودت على إطلاق الأحكام المسبقة على الآخرين من النظرة الأولى، بالإضافة إلى أن مبلغ العشرين ألف دولار على الحساب غير كافٍ، وقد يثير الشبهات، فمن المفروض أن تعطيني نصف المبلغ المتفق عليه مقدماً، كما هي العادة المتبعة في مثل هذه الترتيبات، ما زاد من ريبتي فيها، حتى في أعمال النصب، فالثقة المتبادلة ضرورية لنجاح العملية، وتخيلت أنها ربما تكون محتالة، وتعمل في مافيا لتجارة الأعضاء البشرية، التي أصبحت سوقها مزدهرة في هذه الأيام.
 
طردت هذه الأفكار السوداء من رأسي، وضعت الورقة الشفافة الموجودة بالظرف فوق التوقيع، وبدأت أمر بقلمي فوقه بدقة، لكي أتدرب على تقليده. أمضيت أكثر من ساعتين وأنا أتمرن على تزوير الإمضاء، حتى أحسست بالملل والإرهاق، فبعد كل هذا الجهد، لم أتقنه بالشكل المفروض. أخذت أتصور ماذا سيحدث لو اكتشف موظف البنك تزويري للإمضاء، وخصوصاً أنني أتكلم بلكنة سورية، تختلف قليلاً بطريقة مطّها للكلمات عن اللهجة اللبنانية، فشعرت بالرعب، وانتابتني هبات ساخنة وباردة، وأصبت برعشة في يدي، فأدركت في حينها بأنه من المستحيل أن أذهب في صبيحة اليوم التالي إلى البنك.
 
 تفحصت العشرين ألف دولار، وبدت لي بعيني المجردتين أنها غير مزيفة، لكني مازلت بحاجة إلى جهاز كشف العملات المزورة، للتأكد من ذلك، وعلى فرض أنها مزورة، فإن الطباعة قد تمت بشكل متقن جداً، بحيث سيكون من السهل بيعها في تركيا بأكثر من سبعة آلاف دولار حقيقية. قسمت المبلغ الى أربع حصص، وثبتّها بشريط لاصق تحت ملابسي الداخلية، لكي أمر بسلام عبر جهاز كاشف المعادن بالمطار.
 
 تركت حقيبة سفري في غرفتي بالفندق، أخذت المصعد ونزلت ماراً بمكتب الاستقبال بشكل طبيعي، فلقد كنت خائفاً من أن يكون الموظف على علاقة بالسيدة سميرة، وأن يخبرها بمغادرتي الفندق. عندما أصبحت بالشارع، ركبت أول تاكسي صادفتها بطريقي، واتجهت مباشرةً إلى المطار، بالنهاية تمكنت من شراء أول تذكرة ترانزيت وجدتها أمامي لمغادرة بيروت بأسرع ما يمكن، كانت رحلة الطائرة المتجهة إلى روما من نصيبي، وبعد وصولي مطار روما سآخذ طائرة ثانية إلى إستانبول، أخرجت من جيبي ألفاً ومئة وخمسين دولاراً، وأعطيتها لموظفة شركة الطيران ثمن التذكرة، ثم استلمت تذكرتي الجديدة، واتجهت إلى بوابة الرحلات المغادرة.
 
 جلست في قاعة الانتظار، فما زالت هناك ساعتان على موعد إقلاع طائرتي، لا أدري لماذا لم أكن مرتاحاً لطريقة لغة جسد موظفة خطوط الطيران في أثناء حديثها معي، وأحسست بأن ابتسامتها كانت مصطنعة. بينما أنا جالس، أعد الدقائق، جاء رجل بلباس مدني وطلب مني مرافقته إلى مركز أمن المطار، حاولت أن أقنع نفسي بأنه محتال شاهد معي الدولارات، وأنا أدفع ثمن تذكرة الطائرة، وها هو يحاول اختطافي، فأخذت أصرخ بأعلى صوتي في قاعة المطار، لكي ألفت نظر الناس الموجودين حولي إلى عملية الاختطاف، لكن الرجل أظهر بطاقة رسمية تظهر بأنه من رجال أمن المطار، فابتعد الجميع عنا.
 
 في البداية شعرت بأن أعصابي تنهار شيئاً فشيئاً، لكن بسرعة استعدت توازني، فلا شيء عملياً يدعو إلى القلق، فهويتي اللبنانية كنت قد تخلصت منها قبل قليل برميها في مرحاض غرفة حمام الرجال بالمطار. استعدت ثقتي بنفسي من جديد، فأنا لا أحمل دولارات مزيفة، وكل ما هو عليّ الآن، أن أواجه المحقق بهدوء.
 
 سألني رجل الأمن: “هل اسمك أيمن سويلم”؟ فهززت رأسي بالموافقة، ثم طلب مني جواز سفري، وبعد أن تفحّصه بدقة، سألني عن اختبار فحص الكورونا، فأخرجت من جيبي ورقة الفحص التي كنت قد حصلت عليها في إستانبول، قبل مغادرتي المطار إلى بيروت. نظر بتمعّن إلى تاريخها، ثم قال لي: لقد مضى على تاريخ إجراء الفحص خمسون ساعة، وكما تعرف فإن القوانين الدولية تنص على أن مدة صلاحية الشهادة لركوب الطائرة ثمانية وأربعون ساعة، لذلك لا يمكنك السفر على هذه الرحلة، عليك الذهاب إلى بيروت، للحصول على شهادة فحص الكورونا من مركز طبيٍّ معتمد حكومياً. أما الآن فسنمر في طريقنا على فرع أمن المطار، فرئيس الفرع يريد مقابلتك.
 
دخلت إلى غرفة صغيرة في صدرها طاولة مستطيلة، يجلس خلفها شاب صغير برتبة ملازم أول، من دون أي سلام أو مقدمات فاجأني بسؤاله عن سبب نزولي بفندق المريديان بهوية لبنانية مزورة باسم ميشيل صويبر؟ حيث إن الشرطة الجنائية، كانت قد تلقت مكالمة هاتفية من سيدة مجهولة، أخبرتهم بأني أعطيتها موعداً في صباح اليوم التالي بمطعم المريديان، لكي أبيعها عشرين ألف دولار مزورة، كنت قد جلبتها معي من تركيا.