جزر سيشل

مازلـت أذكـر حتـى الآن صبـاح هـذا اليـوم الـذي ابتـدأت فيـه هـذه القصـة، كان ذلـك فيً أوائـل شـهر أيلول، منـذ نحـو عشـرة أعـوام، كنـت وقتها أعمل مهندسـا في شـركة سـعودية للتعهدات، تقوم بإنشـاء مبنى تجـاري ضخـم في مدينـة مكنـاس في المملكـة المغربيـة، جـرت العـادة أن أتـردد أنـا وصديقـي اللبنانـي خليـل، الـذي يعمـل محاسـباً معـي في الشـركة نفسـها إلـى مدينـة طنجـة نهايـة كل أسـبوع، لتمضيـة يومـي السـبت والأحد في التنقل بين البارات، والتسـكع على بلاجات البحر. انطلقنـا كعادتنـا في صبـاح يـوم السـبت علـى الطريـق الإسـفلتي الضّيـقالـذييمـربـينأحضـانبسـاتينالبرتقـالالتـيتقـععلـى جانبـي الطريـق المـؤدي إلـى طنجـة، شـعرت بنسـمات الصبـاح البـاردة تحمـل معهـا أريـج أزهـار البرتقـال إلـى داخـل السـيارة، إن رائحـة أزهـار البرتقـال أشـد وأقـوى جاذبيـة مـن جميـع أنـواع الأزهـار التـي أعرفهـا، إنهـا تخترقنـي، لتخلـق بداخلـي انتعاشـة غريبة، غطـت علـى رغبتـي للاستسـلام لهجمـات النـوم في هذا الصبـاح الباكر، ولتبعث في نفسـي ذكريـات رائحة صديقتـي فيـرا القادمـة مـن جـزر سيشـل، التـي سـأقابلها بعد عدة سـاعات، للعطر تأثير قوي فوري، يشـعل الرغبات العاطفية المدفونـة في أعمـاق الرجـل، ويغيـر مزاجـه فـوراً، ويجعلـه يعيـش في عالـم الأوهـام، إنهـا تذكرنـي برائحـة العطـر الـذي يفوح مـن

جسـدها، والـذي طالمـا جذبنـي إليهـا ليختلـط الحـب بالكيميـاء. أخـذت أتصورهـا أمامـي، وهـي تنتظرنـي بشعرها الأسـود الداكن، وعينيهـا العسـليتين الصغيرتـين اللتـين تلمعـان بشـكل دائـم، لتظهـرا مقـدار ذكائهـا، علـى الرغـم مـن بشـرتها البنية الفاتحـة، وقامتهـا

القصيـرة، وبنيتهـا النحيفـة، وصدرهـا الصغيـر، فإنـي أتصورهـا مـنً أجمـل البنـات اللواتـي عرفتهـن في حياتـي، إنـي أجـد نفسـي منجذبـا بشـكل لا يقـاوم إلـى هـذا الهجـين المختلـط مـن الجمـال الأوروبـي والإفريقـي، إنه مغايـر لطبيعـة الجمـال العـادي الـذي تعـودت عليـه في

سـورية. عاشـت في جـزر سيشـل التـي ًهـي خليـط مـن الثقافات واللغـات

المتعـددة، بينًمـا عشـت أنـا محافظـا طـوال عمـري في بيئـة متزمتة، ولم أتصـور أبـدا أن يكـون عنـدي في يـوم مـن الأيـام صديقـة تعمل موظفـة اسـتقبالفينـاٍدليلـي.

الواحـد منـا في الغربـة يتطـور بسـرعة في كل يـوم نتيجة لتجاربه في الحيـاة وتقدمـه بالعمـر، كما تتغيـر علاقاتـه مـع الأشـخاص المحيطـينً بـه، لتصبـح لـه شـخصية جديـدة لهـا رغبـات وتطلعـات تختلـف كليـا عـن شـخصيته القديمة التـي عاشـها في بلـده، إن رائحتهـا الطبيعيـة تثيرنـي أكثـر مـن روائـح العطور الفرنسـية الغالية التي تضعها النسـاء، لتزيد من جاذبيتهن الأنثوية، لاشـك أن لحاسـة الشـم دوراً أساسـياً في العلاقـات الحميمـة والانجـذاب الجنسـي بـين الطرفين، وقـد تفـوق في

بعـض الأحيـان حاسـتي النظـر واللمس. مضـى علـى علاقتنـا أكثـر مـن ثلاثـة أشـهر، وأخـذت فيـرا تضغـط

علـَّيبالفتـرةالأخيـرةلكـيأتزوجهـا،وصلناطنجـة،ونزلنـابفنـدق أطلـس الـذي تعودنـا عليـه، اتصلـت بفيـرا علـى هاتفهـا الجـوال، وتواعدنـا علـى اللقـاء للغـداء في مطعـم يقـدم الأطبـاق المغربيـة علـى شـاطئ البحـر، بعـد كأسـين مـن النبيـذ شـعرت بالنشـوة والسـعادة

لوجـود فيـرا إلـى جانًبـي، وهـي تـدرك بذكائهـا وتجربتهـا أن الكحـول يجعلنـي أكثـر انفتاحـا لتقبـل تجارب جديدة، والإنصات إلى اقتراحات الآخريـن.

أثناء جلوسـنا بالمطعـم اقترحـت فيـرا علينـا الذهـاب لقضـاء عطلة
عيـد الأضحـى التـي سـتحل بعـد أسـبوعين في جـزر سيشـل، وقبل أن تسـمع جوابنـا، أخرجـت مـن جزدانهـا صـورة لفتـاة جميلـة، لا يزيـد عمرهـا علـى عشـرين عامـاً، وناولتها لخليل، وذكرت لـه أنها صديقتها التـي تعيـش في جزيـرة براسـيل. حاولـت أن تقنعنـا بأنـه يمكننـا أن نعيـش نحـن الأربعـة في شـقة صغيرة ورخيصـة، وتقوم هـي وصديقتها بتحضيـر الطعـام لنـا، وسـيقتصر مصروفنـا علـى الذهـاب بالليـل إلـى البـارات، وسـنمضي أكثـر أوقاتنـا علـى شـواطئ الجزيـرة الرائعـة ذات الرمـل الأبيـض الناعـم التـي تنبـت فيهـا صخـور الغرانيـت السـوداء، مسـتغلين الجـو المعتـدل الـذي يسـيطر علـى الجزيرة في أوقـات الربيع، وسـيكون مصروفنا محدوداً، ولاسـيما أن الدولار يعادل عشـر روبيات بالعملـة المحليـة، ولـن تكلفنـا هـذه الرحلـة عملياً سـوى تذاكر الطائرة٠ شاهدت وجه خليل وهو يتمعن في صورة الفتاة، إن نضارة الفتيات الصغيـرات تزيدهـن جمـالاً، وخصوصـاً بعيـون الرجـال المتقدمـين بالعمـر. ويبقـى الرجـل مهمـا زاد بـه العمـر متشـبثاً بصـورة الفتـاة الجميلة الصغيرة التي لطالما انطبعت في رأسه منذ سنوات المراهقة. إن خبـرة فيـرا بالتعامـل مـع الرجـال وقدرتها علـى معرفـة رغباتهم الدفينـة، جعلتهـا تقـدم عرضـاً لخليـل لا يمكنـه أن يرفضـه، وهـي تـدركسـلفاًأنـهبـدورهسـيضغطعلَّيللسـفرإلـىجزيـرةبراسـيل

لقضـاء إجـازة العيـد هنـاك، أدركت خـلال علاقتها معي، مقدار الكبت الجنسـي الـذي عانيتـه في صغـري، وهـي تلاحـظ باسـتمرار مقـدار مسـاحة الأفكار الجنسـية التي تسـيطر على عقلي، من خلال الكلمات التـي أسـتعملها في أحاديثـي مـع خليـل، لقـد أعطتنـي الحـب والعاطفـة والجنـس،ولـم ُتحـلمشـكلتي،وكمايقولفرويـد:نحنأوفياءلماضينا. تصـور خليـل أنـه سـيقضي أسـبوعاً مـن العسـل مـع هـذه البنـت الصغيـرة الجميلـة، مـن دون أن ً يتحمـل مسـؤولية نتائجها، وأمـا بالنسـبة لـي فـكان الموضـوع مختلفـا، إنهـا تريدني أن أذهـب إلى هناك لمقابلـة أسـرتها، وسـتدفعني بطريقتهـا الخاصة لكـي أطلـب يدهـا مـن أبيهـا. لقـد تعـودت عليهـا، وتكونـت في داخلـي قناعـة أننـي لا أسـتطيع أن أعيـش مـن دونهـا، لكننـي مازلـت متـردداً في الـزواج منهـا، خوفاً من مسـّؤوليةالـزواج،ومـنخسـارتيلحريتـيالشـخصية،ولتقطـععلـَّي خـط الرجعـة، اسـتقالت مـن وظيفتها بالنادي، وعـادت معنا إلى مدينة مكنـاس لتشـاركني غرفتـي في الشـقة التـي أتقاسـمها مـع خليـل، إنهـا تريـدأنتربطنـيبهـا،لتسـيطرعلـَّيطـوالالوقـتبأنوثتهـاالطاغيـة، ولا تتـرك لـي المجـال لكـي أفكـر بتغييـر رأيـي في السـفر إلـى جـزر

سيشـل. إنهـا فتـاة مسـتقلة بحكم أنهـا تعيـل نفسـها، وتعيـش بعيـدة عـن

أهلهـا، لكـن علـى الرغـم مـن اسـتقلاليتها، فهـي تحـاول ألا تشـعرني بذلـك، مدركـة أننـي بطبيعتـي كرجل شـرقي، أكره التعامـل في أعماقي مـع امـرأة جميلـة مسـتقلة متحـررة وواثقـة بذاتهـا. لقـد فاتحتنـي مـرة بأنهـا علـى اسـتعداد لكـي تغيـر دينهـا، وتصبـح مسـلمة، فيمـا إذا كنـت

أعتقد أن ذلك سـيصب في مصلحة أولادنا بالمسـتقبل، ولطالما شـعرت بأنهـا أكثـر نضوجـاً منـي في بعـض المواقـف.

قبـل السـفر قمـت بشـراء خـاتم خطبـة لفيـرا، ماركـة بياجيـه مـن الذهـب الـوردي، تحيـط بـه ماسـات صغيرة، دفعـت ثمنـه أكثـر مـن خمسـة آلاف دولار، لكيـلا أتـورط بحفلـة للخطبـة فـور وصولنـا إلـى أهلهـا. إن هذا الخـاتم سـيغنيني عـن كل الهدايـا بالمسـتقبل التـي قـد تتطلبها المناسـبات، وأفهمت فيرا أن هذا الخاتم، هو كل ما سـأقدمه لهـا قبـل الـزواج، وتظاهـرت مثـل كل نسـاء العالـم بأن الألمـاس هو آخر

مـا تفكـر بـه، مـن أجل إنجـاح علاقتنـا. تمكنـت أنـا وخليـل مـن الحصول على إجـازة خاصة لمدة ثلاثة أيام،

قمنـا بضمهـا إلـى عطلـة العيـد الرسـمية، لتصبـح مـدة عطلتنـا ثمانيـة أيـام، وهـي بالـكاد تكفينـا لقضـاء هـذه الإجـازة في هـذا المـكان البعيـد عـن العالم.

بعد ثماني ساعات من الطيران المتواصل، وصلنا إلى مطار سيشل الدولـي القريـب مـن العاصمـة فيكتوريـا، التـي تقـع في جزيـرة ماهيـة الرئيسـية، بالأرخبيـل المكـون مـن مئـة وخمـس عشـرة جزيـرة، حصلنـا علـىفيـزابالمطـار،وبينمـانحـننهـُّمبمغـادرةصالـةالقدوم،طالعتنـا بنـت سـمراء غامقـة طويلـة، يغلـب علـى ملامحهـا التقاطيـع الأوروبيـة، أسـدلت شـعرها الأسـود الطويل، لينسـاب بعفوية على كتفيها، مرتدية جينـزاً أبيـض، مـع قميـص باللـون الأخضـر، ليتماشـى مـع لـون عينيهـا الخضراويـن، ولمـا شـاهدت فيرا، ركضت باتجاهـا واحتضنتها، أدركت أنـا وخليـل أنهـا صديقتهـا جوزيـه التي من المفروض أن تكون بانتظارنا

بالمطـار، لـم أتوقـع أن تكـون رائعـة إلـى هـذا الحـد، إنهـا بنظـري أجمـل بكثيـر مـن أن يسـتحقها خليل.

انطلقنـا جميعـاً إلـى جزيـرة براسـيل القريبـة منا، حيـث حجزت لنا جوزيـه شـقة صغيرة مكونـة مـن غرفتـين للنـوم، وصالـة فيهـا بلكونـة واسـعة، تطـل علـى المحيـط الهنـدي، لنمضـي فيهـا إجازتنـا، بأجـرة لا

تتجاوز سـبعين دولاراً باليـوم. بعد وصولنا خرجت أنا وفيرا من الشـقة مباشـرة، بحجة الذهاب

لشـراء بعض الحاجيات والمشـروبات الكحولية، تاركين الفرصة لخليل ليبقـى وحـده مـع صديقتـه الفاتنـة جوزيـه، لمعرفتـي بأنه شـاب خجول، وخبرتـه مـع النسـاء محـدودة، إنـه بحاجـة إلى بعض الوقـت ليتأقلم مع

هـذا الجو الجديد. ذهبنا مباشـرة إلى أحد المطاعم المتناثرة بكثرة في أنحاء الجزيرة،

وبعدهـا تمشـينا علـى الشـواطئ الرمليـة بـين أحضـان الطبيعـة البكـر السـاحرة، عدنـا بعـد خمـس سـاعات إلـى البيـت، مقتنعـاً بـأن هـذا الوقـتكاٍفلكـييتعـرفخليلعلىصديقتهالجديدة،ويتعودعليها.

اسـتيقظنا في صبـاح اليـوم التالـي، وأخذنا زجاجة الويسـكي وعلب البيـرة، ونزلنـا إلـى شـاطئ البحر المواجـه لشـقتنا، جلسـنا تحت ظلال أشـجار النخيـل المطلـة علـى البحـر، التـي لا يفصلهـا عن شـواطئه أكثر مـن مئـة متـر، وكانـت إلى يميننا تمتد أشـجار الغابات الاسـتوائية على

طول السـاحل. بعد كأسـين من الويسـكي شعرت بالنشـوة، وأنا أراقب جوزيه وهي

مرتديـة المايـوه البكينـي الأخضـر الداكـن، ولـم يخـف إلا أقـل القليـل

مـن قوامهـا الرشـيق، ونزلـت بنظـري إلـى سـاقيها الطويلتـين، وتوقفـت عنـد منحنيـات قدميهـا الناعمتـين، إن لشـكل القـدم النسـائية جاذبيـة محفـورة في لاوعـي الرجـل، وهـي التـي تقـوده مـن دون إدراكـه بالنهايـة إلـى أصابعهـا، ولقـد تفننـت بوضع الطلاء على أظفـار أصابع قدميها، فتداخلـت الألـوان الخضـراء مـع الحمـراء، لتشـكل رسـومات هندسـيةً تبـرز جمـال وتناسـق هـذه ً الأصابـع الأنيقـة، لاشـك أنهـا تحـرص دائما علـى جعـل قدميهـا مركـزا للفـت الانتبـاه. وأشـحت بنظـري إلـى البحـر لأبعـد الشـبهة عـن نفسـي، بأننـي أسـتمتع بمراقبـة جسـد جوزيـه، وأخـذت أتكلـم مـع خليـل بالعربيـة، وشـاهدت الامتعـاض باديـاً علـى وجـه فيـرا، إنهـا تعـرف جيـداً، بأنني عندمـا أتكلـم بالعربيـة بوجودها، فغالبـاً مـا يكـون كلامـي عـن الجنس، وعـن علاقاتنا النسـائية. أقنعتها عـدة مـرات أننـي أعتبرهـا زوجتـي، ولا يمكننـي أن أتكلـم مـع خليل عن علاقتـي معهـا، وبالفعـل كنـت أتحـدث مـع خليـل عـن علاقتـه بجوزيـه، أريـده أن يكـون صاحيـاً، لكيـلا يتـورط بسـرعة مـع بنـت جميلـة وذكيـة

لا يعرفهـا. ً بعـد الظهـر ذكرتنـي فيـرا، بأنـه مـن الواجـب أن نذهـب غـدا لزيارة عائلتهـا في جزيـرة ماهيـة الملاصقـة لجزيرتنـا، حاولـت أن أماطـل في موضـوع الزيـارة، لأننـي لا أعـرف مـاذا سـأقول لأهلهـا، وعندمـا أخبرتهـا بذلـك ضحكـت وقالـت: صرعتنـًي دائمـاً بترديـدك العبـارة الـواردة بالإنجيـل… الحقيقـة تجعلـك حـرا. قـل لهم الحقيقـة… بأنك زوجـي.. أنـا أعـرف بأنهـا ذكيـة بالفطـرة، ولكـن مع مـرور الوقت تزداد

قناعتـي بذلـك.

ذهبنـا بالمسـاء إلـى السـوق القديمـة، واشـتريت قطعتـين صغيرتـين مـن الذهـب لوالدتهـا وأختهـا الصغيـرة، كما اشـتريت هاتـف آي فـون لوالدهـا، حاولـت أن تتظاهـر بـأن سـعر هـذه الهدايـا غاليـة، وأنـه لا حاجـة لهـا، بـدأت تتداخـل مؤخـراً في مصـروفي، وهـي دائمـاً تقول لي: إن اسـتعمالي الكريديـت كارد يجعلنـي مبـذراً، لأننـي لا أشـعر بقيمـة النقـود عنـد صرفهـا، محاولـة أن تحافـظ علـى نقودنـا، إنهـا بطبيعتهـا تكـره التبذيـر، وربمـا يعـود ذلـك إلـى بيئتهـا الفقيرة التي نشـأت فيهــا، وهـي دائمـاً تذكرنـي بأنـه يجـب أن نقتصـد في مصروفنـا مـن أجـل إرسـال أولادنـا بالمسـتقبل إلـى الجامعـات، إنهـا تخطط لعشـرين سـنة إلـى الأمـام، بينمـا لا أفكـر أنـا إلا بيومـي الـذي أعيـش فيـه، إن عـدم إتمامهـادراسـتها،وعـدمدخولهـاالجامعـة،كـّونعندهاعقدةنفسـية، وهـي تحـاول أن تجنـب أولادهـا هـذه التجربـة. ذكـرت لـي أنهـا لطالمـا شـعرت بالتعاسـة، وهـي تعمـل مضيفـة بالنـادي الليلـي، لما تجد نفسـها مضطـرة للتغاضـي عـن التحرشـات الجنسـية مـن مديرهـا المباشـر، ومـن غلاظـة بعـض الزبائـن، مـن أجـل المحافظـة علـى وظيفتهـا، ولـو أنهـا كانـت تحمـل شـهادة جامعيـة، لمـا اضطـرت للعمـل بالنـادي الليلي. ذهبنـا في الصبـاح لزيـارة عائلتها، وارتدت الخاتم الوردي الألماسـي في يدهـا اليمنـى، لتشـعر أهلهـا بموضـوع جديـة هـذه العلاقـة، ويرمـز حجـر الألمـاس القاسـي بالخـاتم إلـى القـوة، وهـو كنايـة للتعبيـر عـن رغبـةالطرفـينفيأنيسـتمرهـذاالـزواجإلـىالأبـد.لـمتـدُعخليـل وصديقتـه للذهـاب معنـا، ربمـا لأنهـا تشـعر بأعمـاق نفسـها بالخجل مـن وضـع أسـرتها المـادي، ومـن منزلهـم المتواضـع الـذي يعيشـون

فيـه، أمـا بالنسـبة لـي، فهـي تعتبرنـي زوجهـا وفرداً مـن عائلتهـا. أعطيناهـم الهدايـا، ولاحظـت علامـات السـرور باديـة علـى وجوههـم، وهـم يتفحصونهـا بهـدوء، وأمضينـا النهار عندهـم، ونحـن نتحـدث بالفرنسـية طـوال الوقـت، إنهـم يتحدثونهـا بطلاقـة، إلـى جانـب لغتهـم الكريوليـة المحليـة. كنـت طـوال الوقت أتحاشـى الحديـث عـن علاقتـي بفيـرا، وتركـت لهـا أن تتحـدث عـن خطبتنا وخطتنـا للزواج فور عودتنا إلـى المغـرب، وأنا أهـز رأسـي طـوال الوقـت موافقـاً علـى كلامهـا، على الرغـم مـن أننـي لـم أكـن متأكـداً فيمـا إذا كانـت كل هـذه المخططـات التي تـدور برأسـها قابلـة للتطبيـق، ولـم يتطـرق أحـد خـلال الأحاديـث

عـن اختـلاف ديانـة كل واحـد منـا. عدنـا إلـى المنـزل، وعندمـا دخلـت المنـزل، شـاهدت خليـل ممـددا

مـع جوزيـه علـى أرضيـة البلًكونـة، وشـكلهما غير طبيعـي، وعيونهمـا محمرة، وهم يشـربون سـائلا غامق اللون ذا رائحة غريبة، ولما سـألته عنه، أجابتني جوزيه بأنه الفطر السـحري، مع أنني لم أجرب تعاطي المخـدرات في كل حياتـي، ولكننـي قـرأت عـن جلسـات تعاطي هـذا الفطـر الـذي يسـمونه طعـام الآلهـة. شـاهدت مـرة بالسـينما أن كهنـة الهنـود يعطونـه لأتباعهم كـدواء لمعالجـة مـرض الاكتئـاب، وهو يؤثر في وعيهـم لفتـرة سـت سـاعات، وأخطـر مـا فيـه، أن تأثيـره يهيمـن علـى الحواس البصرية والسـمعية بالوقت نفسـه، فيشـعر الواحد أنه يعيش الحـدث كفيلـم ثلاثـي الأبعـاد، مـا يـؤدي إلـى الخـوف الشـديد والنشـوة العارمة، ليفقـد الإنسـان فيهـا السـيطرة علـى نفسـه، والأهـم مـن كل ذلـك، أن لـه تأثيـرات روحيـة، فيحـاول الشـخص خـلال الجلسـة إعادة

اكتشـاف نفسـه، ويبـدأ في تصـور الأرض والكـون برؤيـا عميقـة، تنطلـق مـن داخلـه، ليسـتعيد طبيعـة غرائـزه الحقيقيـة التـي تسـيره في هـذه العالم.

إنهـا نهضـة روحيـة، توصـف بالـولادة من جديد، تعطيه الشـعور بالارتفـاع والسـمو الروحي، ويشـعر بالأبعـاد الثلاثيـة لجميـع الأشـياء المحيطـة بـه، إنهـا طريقـة معروفـة يسـتعملها الكهنـة للسـيطرة علـى أتباعهـم. لاشـك أن جوزيـه شـجعته علـى تعاطـي هـذا النـوع مـن المـواد المخـدرة، لتسـيطر عليـه أثنـاء مـروره بتجربـة الـولادة مـن جديـد، إنها تريـده أن يتزوجهـا، لتتمكـن مـن تـرك هـذه الجزيـرة المحـدودة الإمكانيـات، ولتنطلـق إلـى عالـم جديـد، يمكنها فيه أن تسـتغل جمالها

الأخـاذ. ً أدركت بهذه اللحظة أن هذه الفتاة الصغيرة والجميلة خطرة جدا، لدرجـة لـم أكـن أتصورهـا. اعتدت أحيانـاً علـى تدخـين الحشيشـة مـع خليـل في المناسـبات، لتسـاعدنا علـى الاسـترخاء، وتشـعرنا بالزهزهـة،

لكـن طوال حياتـي لـم أسـتعمل هـذه المـواد التي تؤدي إلى الهلوسـة. في المسـاء، عندمـا كانـت فيـرا مسـتلقية إلـى جانبـي بالفـراش، طلبت منهـا أن تمنـع جوزيـه مـن إحضـار المخـدرات إلـى شـقتنا، لأنهـا تسـتعمل الجنـس والمخـدرات للسـيطرة علـى خليـل، فحاولـت بدورهـا أن تقنعنـي بأنهـا ليسـت مشـكلتنا، ولا تخصنـا، إنهـا تتصـور بأعمـاق نفسـها أن جواز خليل من صديقتها سـيؤثر في تفكيري، ويدفعني إلى

الإسـراع بالـزواج منهـا. إن المكـر عنـد النسـاء جـزء مـن طبيعتهـن، وهـن يتوارثنـه بالجينـات

عن جداتهن، وسألتني بلهجة طبيعية، لماذا لا تجرب الفطر السحري؟ خطـر لـي فـوراً، أنهـا تريـد أن تدفعنـي لأجـرب هـذا المخدر، لتسـتطيع خـلال مـروري بتجربـة الـولادة مـن جديـد، أن تسـيطر علـى تفكيـريً، حيـث يكـون عقلـي الباطـن حينهـا في حالـة ذهنية مشوشـة وقابـلا للإيحـاء، تتمكـن فيهـا فيـرا لاقتراحاتهـا مـن التغلغـل إلـى اللاوعـي، ليتـم ترسـيخها في ذهنـي بسـهولة، لكـي تخلص مـن موًضـوع تسـليفي ومماطلتـي بالـزواج منهـا، إنهـا تعـرف أن عقليتـي دائمـا منهزمـة، وأنـا غيـر واقعـي في تقديري، لمـا هـو متوقـع منـي تجاههـا، بعـد أن أعطتني مـا أرغـب فيـه، إنهـا تخـاف أن جميـع تضحياتهـا مـن أجلـي مـا زالـت أقل ممـا أحلـم بالوصـول إليـه، لا شـك أنهـا أخطـر مـن صديقتهـا جوزيـه، لأنهـا زرعـت في رأسـي مـن دون إدراكـي فكـرة تجربـة الفطـر

السـحري. في صبـاح اليـوم التالـي، بادرنـي خليـل بالحديـث، بأنـه يحسـدني

لأننـي أملـك فيـرا، وأنـه مسـتغرب لماذا لـم أتزوجهـا حتـى الآن، علـى الرغـم مـن مضـي هـذه الفتـرة الطويلـة علـى علاقتنـا. وتابـع حديثـه بأنـه يحـب جوزيـه، وهـو يفكـر بالزواج منهـا. لـم أسـتطع أن أتمالـك نفسـي، وذكرتـه بـأن لغتـه الفرنسـية ضعيفـة، وهـو بالـكاد يسـتطيع أن يتفاهـم معهـا، بينمـا هي تتقـن الفرنسـية، لأنهـا لغتهـا الثانيـة، وأن كل ارتباطـه معهـا يرتكـز علـى علاقتهمـا الجنسـية، وجـدت صعوبـة وأنـا أشـرح لـه أن علاقتـي مـع فيـرا تقـوم علـى التفاهـم، وهـو يعـرف أننـي أتقـن الفرنسـية، لأننـي درسـت الهندسـة في فرنسـا، وأمضيـت سـت سـنوات هنـاك، لأول مـرة شـعرت بأننـا ربما أخطأنـا بالقدوم إلى جزر

سيشـل،لأنالأمـورتجـريأسـرعبكثيـرممـاكّنـانتوقـع. ذهبنـا إلـى الشـاطئ، واسـتأجرنا يختـاً صغيـراً، ودخلنـا إلـى عمـق حوالـي ثلاثـة كيلومتـرات في البحـر، حيـث الميـاه الزرقـاء الصافيـة، تبـدو كأنهـا قطعـة مـن الكريسـتال الأزرق الفـاتح، يمكنـك مـن خلالهـا مشـاهدة قـاع البحـر لعمـق عشـرين متـراً أو أكثـر، وتـرى الألـوان الزاهيـة للشـعب المرجانيـة مـن الـوردي إلـى البنفسـجي، وهـي تعكـس

ظلالهـا مـن تحـت المـاء الهـادئ. إنه عالم آخر تحت البحر يسحر الألباب، وتمتد فيه هذه الحدائق

المرجانيـة إلـى مسـافات شاسـعة لا حـدود لهـا، إنهـم جميعهـم يحبـون السـباحة والغطـس في هـذه الميـاه النظيفة البلوريـة، لأنهـم ترعرعـوا، وعاشـوا بجانـب البحـر. أمـا بالنسـبة لـي فـإن شـطارتي بالسـباحة محـدودة، لقـد تعلمـت السـباحة في المسـابح الصغيـرة المنتشـرة في الفنـادق بمدينـة دمشـق. أمـا الغطـس فليـس لـي أي علاقـة بـه، وكنـت أجلـس علـى القارب، وأنـا أراقـب بطـرف عينـي حـركات جوزيـه، وهـي تتدلـع علـى خليـل، وتركـز نظـرات عينيهـا الخضراويـن علـى عينيـه، وتقـوم أحيانـاً ببعـض الحـركات الفجائيـة، لتجعـل ثدييهـا يهتـزان مـن تحـت قطعـة الصدريـة الصغيـرة التـي بالـكاد تغطيهمـا، وهـي علـى طـول الوقـت، تسـند رأسـها علـى كتفـه، وتتلاصـق بـه، وتغلـق عينيهـا متظاهـرة بأنهـا تعيـش قصـة حـب رومانسـية، إن لها أسـلوبها الخـاصً في هـذه التصرفـات، تريـد أن تأسـره بهـذه الحـركات، وتجعلـه خاتمـا في إصبعهـا ليتزوجهـا، وكان البكينـي يظهـر جميـع تقاطيـع جسـمها. لاحظـت لأول مـرة وأنـا أحملـق بتمعـن في جسـمها وشـماً لخمسـة

طيور صغيرة خضراء، تطير بشـكل سـرب على كتفها الأيمن، وحسـب معرفتي، فإن الوشـم رمز لرغبات صاحبه المكبوتة، إنها تطمح للسـفر مـن هـذه الجزيـرة بأقـرب مـا يمكنهـا، وشـعرت بالخجـل مـن نفسـي، وأنـا أقارنهـا مـع فيـرا، التـي تتملمـل عندمًا أحاول أن أتلمس جسـمها، ونحـن جالسـان مـع الشـلة، إن لديهـا كثيـرا مـن القيـم الأخلاقيـة، علـى

الرغـم مـن مظاهـر التحـرر التـي تعيـش فيها. أمضيـت فتـرة بعـد الظهـر وأنـا جالـس وحـدي بالقـارب، أراقبهـم

وهـم يسـبحون، ويغوصـون، ويسـتمتعون بنقـاوة المـاء، لأنـي أخـاف مـن السـباحة بمنتصـف البحـر علـى هـذه الأعمـاق، إنـي أسـتمد سـعادتي مـن مشـاهدة فيـرا، وهـي ترفه عـن نفسـها، وتقضـي وقتـاً جميـ ًلا بالسـباحةفيهـذهالميـاهالشـفافة،لاشـكأنهـذايعنـيأنـيأكـُّنلهـا مقـداًراً كبيـراً مـن المـودة والحـب، المشـكلة أنـي شـاهدت في صغـري كثيـرا مـن الأفـلام التـي يقـوم فيهـا القـرش بمهاجمـة السـباحين في عـرض البحـر، مـا شـكل لـدي عقـدة بالخـوف مـن السـباحة بعيـداً عـن الشـاطئ، علـى الرغـم مـن ثقتـي المطلقـة بفيـرا المتمرسـة بالسـباحة،

ومعرفتـي بأنهـا لـن تتخلـى عنـي مهمـا كانـت الظـروف. مضى أكثر من أربعة أيام على قدومنا إلى جزيرة براسلين، ونحن جالسـون نسـتمتع بأيامنـا تحـت تأثيـر الكحـول والعلاقـات الجنسـية والمناظـر الطبيعيـة الخلابـة، بدأنـا نشـعر أن الإجـًازة قـد قاربـت علـى نهايتهـا، وأن علينـا بعـد أربعـة أيـام أن نعود مجددا إلى عملنا الروتيني في مكنـاس. ولنتخلـص مـن هـذا الإحبـاط الـذي بـدا يراودنـا، اقتـرح خليـل أن نقـوم برحلـة بحريـة إلـى جزيـرة كوفي التي تبعـد عنا أكثر من

سـتين كيلومتـراً. في البدايـة تصـورت أن هـذه فكـرة جنونيـة وقاومتهـا بشـدة، إذ إنـه مـن المسـتحيل في نظـري أن نقطـع هـذه المسـافة الطويلة في يخـت صغيـر، لكـن خليـل أنبـرى لفكرتـي، ليؤكـد لنا خبرتـه الطويلة في قيـادة السـفينة التجاريـة الشـراعية العائـدة لعائلتـه لعـدة مرات بين مينـاء صيـدا وجزيـرة قبـرص، التـي تبعـد عـن صيـدا أكثـر مـن مئتـي

كيلومتـر، لكننـي رفضـت هـذه الخطـة نهائياً. في الليل جلسـنا على البلكونة تحت ضوءً القمر ًالذي أصبح يبعث

الهـدوء والسـكينة في نفسـي، وقـد بـدا شـمعة معلقـة بالسـماء، انعكـس نورهـا الفضـي علـى البحـر المظلـم أمامـي، وأنـا أسـتمتع بمسـك يـد فيـرا، وهـي تسند رأسـها علـى كتفـي، بينما أرتشـف قطرات الويسـكي بتكاسـل،وأحّسبشـعرهاوهويتطايرمعالنسـيمالباردالمنعشالذي

يهـب علينـا مـن البحـر، فيلامـس بعـض خصلاتـه وجهي. جلست جوزيه أمامي، وهي ملتصقة بخليل، وهما يمضغان الفطر السـحري، ويتهامسـان بـكلام الحـب، ويخططـان للـزواج بعد انتهـاء الإجـازة، كلنـا مخـدرون بطريقـة أو بأخـرى، إن التخديـر لا يعنـي بالضـرورة اسـتخدام مـواد الهلوسـة أو الكحـول، إذ إنـه يمكـن للواحـد منـا، أن ينتقـل مـن العالـم الـذي يعيـش فيـه إلـى العالـم الافتراضـي بالحـب، أو الجنـس، أو أحـلام اليقظـة، وكانـت جميـع هـذه العوامـل

متوافـرة لدينـا في هـذه اللحظـة. أخذ خليل يتحدث عن مشـروعه لاسـتئجار يخت صغير للانطلاق

إلـى جزيـرة كـوفي، وأخـذت فيـرا تتحـدث عـن خليل هـذه الجزيرة التيً تشـتهر بشـواطئها البكـر، وحياتهـا البحرية الرائـدة، التـي تعتبر موطنا

للسـلاحف الخضـراء المهـددة بالانقـراض، وهـي تقـوم بوضـع بيوضهـا بحريـة علـى الرمـال البيضـاء، ما أجبر الحكومة على اعتبارها محمية طبيعيـة، وأخـذت تتكلـم بإسـهاب عـن الطيـور العملاقـة والغابـات الاسـتًوائية، مـا سـيجعلنا نتوحـد مـع الطبيعـة، ونشـعر بأننـا أصبحنـا قطعـة منهـا، فتحـت تأثيـر الويسـكي، وهـذا الجو الحالم الذي نعيشـه، وشـعورًي بالتخدير، ورغبة فيرا بالإبحار إلى الجزيرة، وجدت نفسـي

موافقـا علـى هـذه الفكرة . ً ً في الصبـاح اسـتأجر خليـل يختـا صغيـرا، وانطلقنـا إلـى جزيـرة

كـوفي، علـى الرغـم مـن اعتراضـي علـى أن يقـوم هـو بنفسـه بقيـادة هـذا اليخـت، مـع معرفتـي بخبرتـه الطويلـة في قيـادة القـوارب إلـى مسـافات بعيـدة بالبحـر، قـد تزيـد عـدة مـرات عـن مـدى بعدنـا عـن جزيـرة كـوفي، لكـن في تلـك اللحظـات، لـم أكـن أثـق بـه، ولا حتـى بنفسـي، لأننـا كلنـا مخدرون بتأثيـر الجنـس والكحـول، لكـن إصـرار فيـرا وجوزيـه علـى عـدم وجـود شـخص غريـب علـى مـن القـارب أثناء رحلتنـا، لكيـلا يحـد مـن حريتهمـا في التعـري، وللاسـتمتاع بالتعـرض لأشـعة الشـمس الدافئـة، أضعـف موقفـي. فكـرت بهـذه الدقيقـة، أن أسـحب فيـرا، ونمتنـع عـن الذهـاب مـع خليـل وجوزيـه بهـذه الرحلـة، لكنـه اعترانـي الخـوف مـن أن أتركهمـا يذهبـان بمفردهمـا، ولاسـيما أننـي كنـت أنـا السـبب في حضـوره لقضـاء إجازتـه علـى هـذه الجزيـرة، بـدلاً مـن الذهـاب لزيـارة أهلـه في لبنـان، انتابنـي حـدس ًقـوي بأن هذا

الشـبقالـذييعيشـهخليـل،سـيعّجلفينهايتنـاجميعـا. تابعنـا طريقنـا نحـو الشـمال باتجـاه أفـق البحـر المفتـوح، لقـد

صفـت السـماء، وسـطعت أشـعة الشـمس، ما شـجع الفتاتـين علـى خلـع ملابسـهما الخفيفـة وارتـداء مايوهـات البكينـي، لًتسـتغلا أشـعة الشـمس الناعمـة، لصبـغ بشـرتيهما الغامقتين أصـلا، بإعطائهمـا لمعانـًا خفيفـاً بفعـل هـذه الزيـوت التـي تدلـكان بهـا جسـميهما، فقـد كنـت أراقب بطـرف عينـي جوزيـه وهـي تضـع الكريمات على جسـمها، وهـي تـزداد تألقـاً، كلمـا توغلنـا في البحر. إن هنـاك علاقة خاصة بين الإنسـان ً والبحـر، تشـجعه ليتـرك العنـان لخيالـه لينطلـق بـلا حـدود،

متجـاوزا زمانـه ومكانـه. لقـد مضـى علـى إبحارنـا أكثـر مـن سـاعة، تناولت خلالهـا أكثـر

مـن ثـلاث زجاجـات مـن البيـرة البـاردة، مـا أعطانـي شـعوراً بالنشـوة. الجميـع يسـتمتعون بوقتهـم، وبشـرب البيـرة والاسـتماع إلـى الموسـيقا الهادئـة المنبعثـة مـن آلـة التسـجيل التـي جلبتهـا معهـا جوزيـه، لاحظـت أنجوزيهقـدجلسـتمباشـرًةبالطـرفالمقابـللـيللفـتانتباهـي، وكانـت تختلـس النظـرات لـي عندمـا تشـعر بـأن فيـرا لا تراقبهـا، إنها اكتشـفت بحاسـتها السادسـة أن خليـل بشـخصيته الفارغـة لا يناسـبها، وأنـه ليـس هنـاك أشـياء مشـتركة بينهمـا، حتـى إنهـا غيـر واثقـة علـى تصميمـه مـن الـزواج بهـا. لاشـك أنهـا شـاهدت نظـرات الإعجـاب والاشـتهاء التـي أرمقهـا بهـا، ولربمـا خطـر لهـا، بـأن تصبـح خطيبتـي، وتحـل محـل صديقتهـا فيرا، ولاسـيما أنها تعـرف بأنها أكثر جمـالاً منهـا، وأننـي منجـذب جنسـياً إليهـا. إن مصالـح الفتيـات تأتـي بالمحـل الأول قبـل صداقتهـن، بـدأ يظهـر وراء الأفـق البعيـد بعـض الضبـاب الأسـود، لكـن خليـل طمأننـا أنه بعد قليل سـيختفي الضباب،

لأننـا بدأنـا نحـس بالريـح الخفيفـة التي تهب علينا مـن الجنوب، والتي سـتحمل الضبـاب بعيـداً عنـا، فتحـت تأثيـر هـذه النسـمات المنعشـة، وتأثيـر الكحـول ونظـري المسـتمر إلـى جسـم جوزيه المثيـر بالبكيني، لم أعد أشـعر بالوقت وهو يمر علينا، وتمنيت لو أن هذه الرحلة تسـتمر

لعـدة سـاعات. مضـى علينـا بالـزورق أكثـر مـن سـاعتين، ومـن المفـروض أن نكـون

قطعنـا خلالهـا أكثـر مـن أربعـين كيلومتـراً، إننـا نتوقـع أن نصـل بعـد سـاعة إلى شـواطئ جزيرة كوفي، لاحظت فيرا من نظراتي إلى جسـم جوزيـه إعجابـي بهـا، ولكنهـا بذكائهـا تمالكـت أعصابهـا، وببرودتهـا المعتـادة تجاوزتهـا، وتابعـت علاقتنـا بشـكل عادي. كنت أشـعر بالخجل مـن نفسـي مـن هـذه الأفـكار التـي تنتابنـي نحـو جوزيـه، لكن السـيطرة

علـى غريزتنـا في بعـض الظـروف تصبـح أضعـف مـن إرادتنـا. أشـعةالشـمسمازالـتخفيفـة،والنهـارفيأولـه،إَّنعلينـاأن نصـل إلـى الجزيـرة في حوالـي العاشـرة، ونبقـى هنـاك لبضع سـاعات، لنتركهـا عنـد العصـر، لكـي نتمكـن مـن العـودة إلـى جزيرتنـا قبـل حلـول الظـلام. الشـمس والبحـر والبيرة والبنـات والموسـيقا تشـعرني بالسـعادة، وبقليـل مـن التخديـر ًاللذيـذ، انتابنـي نـوع مـن الـدوار والصـداع والغثيان الخفيـف نتيجـة لارتجـاج اليخـت المسـتمر، حاولـت أن أمنـع نفسـي مـن التقيـؤ، لكيـلا أحـرج نفسـي أمـام جوزيـه، أخـذت هـذه البنـت تسـيطر علـى تفكيـري، وبحركـة لا شـعورية، بـدأت أقارنها مـعخطيبتـيفيـرا،فهمـتفيهـذهاللحظـةأنعلـَّيأنأتوقـفعـن هـذه الحـركات الصبيانيـة تجـاه جوزيـه، إن رغبتـي الجنسـية العنيفـة

نحوهـا، ليسـت شـرطاً كافيـاً لـولادة الحـب بيننـا، لأننـي أعـرف جيـداً أن علاقتنـا سـتنتهي بعـد إشـباع غرائـزي منهـا، إنـه نـوع مـن الإعجـاب الجسـدي والهواجـس النفسـية التـي تتملكنـي تجاههـا، وربمـا يعـود ذلـك، إلـى عـدم نضوجـي العاطفـي لقلـة تجاربـي السـابقة مـع البنـات. بالواقـع لا يمكننـي أن أتخيـل حياتـي بعيـداً عـن فيـرا، إنهـا تبـذل كل طاقتهـامـنُّأجلـي،وأنـاأتقبلهـاوأحبهـاًكمـاهـي،وأريـدأنأراهـاكل يـوم ولا أمـل منهـا، أريدهـا أن تكـون أمـا لأطفالـي. جلسـت في مكانـي أراقـب الأفـق وقـد اعترانـي بعـض القلـق، لأننـا لـم نلمـح أي سـفينة أو

قـارب في هـذه المنطقـة. أصبـح مـن المفـروض أن تلـوح الجزيـرة في أي لحظـة، سـألت خليـل

عـن موقعنـا مـن جزيـرة كـوفي، فأكـد لـي أن الأمـور كلهـا علـى مـا يـرام، وأننـا نسـير وفقـاً لخـط البوصلـة البحريـة، إنـه يسـيطر علـى الأمـور، وإننا لم نستهلك حتى الآن إلا حوالي ثلث خزان الوقود، وإن الجزيرة سـتظهر بعـد قليـل، بـدأت أشـعر بـأن الوقـت يمـر بشـكل بطـيء، وأن قلقـي آخـذ بالازديـاد، أمـا البنتان فما زالتا مسـتلقيتين بتكاسـل، وهما

تسـتمتعان بالحمام الشمسـي. بـدأت ألـوم نفسـي لأننـي وثقـت بخليـل، علـى الرغـم مـن معرفتـي

بـه بأنـه شـخص سـطحي، ولا يتعمـق في تفاصيـل الأمـور. مضـى الآن أكثـر مـن أربـع سـاعات علـى مغادرتنـا جزيرتنـا، ولـم يظهـر بالأفـق البعيـد أثـر لجزيـرة كـوفي، اقترحـت علـى خليـل أن نعـود بالقـارب إلـى جزيرتنـا التـي انطلقنـا منهـا، ومـا كـدت أنهـي جملتـي، ومـن دون أي مناقشـة، حتى بدأ خليل يلف بالقارب لنعود إلى جزيرة براسـيل، لقد

تأكـدت في هـذا الوقـت بـأن خليـل يعـرف بأعماقـه أننـا قـد تهنـا عـن وجهتنـا، وأن التيـارات البحريـة القويـة قـد جرفتنـا عـن مسـار طريقنـا إلـى جزيـرة كـوفي، وأنـه لـم يعـد يعـرف مـاذا يفعـل.

الآن أدرك الجميـع بـأن الأمـور لـم تعـد على ما يرام، وأننا أصبحنا ضائعـين في قلـب البحـر. عـاد خليـل بغبائـه ليحـاول أن يطمئننـا بـأن أكثـر مـن نصـف خـزان الوقـود مـازال ممتلئاً، ولا داعـي للقلق، فأصبح الجـو ثقيـ ًلا علـى القـارب، ولـم يعـد هنـاك مـا يقـال، جـاءت فيـرا، وجلسـت بجانبي بطرف اليخت، وأمسـكت بيدي سـاندة برأسـها على كتفـي، لتعطينـي الشـعور بالأمـان، لا شـك أنهـا شـاهدت آثـار الهلـع المرتسـمعلـىوجهـي،أمـاجوزيـهفتابعـتحمامهاالشمسـيمتظاهرًة

بالشـجاعة، وبعـدم المبـالاة مـن تضخيمنـا للأمـور. بينمـا أنـا أحـدق في الأفـق البعيـد، شـاهدت لأول مـرة بعـض الغيوم

الداكنـة المتجمعـة علـى يمـين اليخـت، شـد انتباهـي منظرهـا الغريـب، أخـذت أدقـق فيهـا، فـلا َح لـي تحتهـا نقطـة سـوداء، نبهـت خليـل إليهـا، فمـا كان منـه إلا أن اسـتدار بالقـارب نحوهـا مـن دون تفكيـر، إنـه يـدرك بأننـا نبحـر علـى غيـر هـدى في هـذا المحيـط الواسـع، وإن عليـه أن يتمسـك بـأي خيـط يـراه أمامـه، لا شـك أنهـا جزيـرة صغيـرة مـن الجـزر البركانيـة المنتشـرة بكثـرة في أرخبيل سيشـل، وكلمـا اقتربنا من الجزيـرة اشـتدت الريـاح، وازداد ارتفـاع الأمـواج، كأنهـا رسـالة تحذرنا

فيهـا مـن خطـورة الوصـول إليهـا. ً بينمـا نحـن نقتـرب مـن الجزيـرة، تزايدت قوة الأمـواج مرتفعة أكثر فأكثـر، وأخـذت الميـاه تتحـول بالتدريـج إلـى اللـون الأخضـر، أحسسـنا

بالتيـار البحـري وهـو يحـاول أن يسـحبنا إلـى شـواطئ الجزيـرة، حركة سـطح اليخـت المضطربـة التـي تهتـز باسـتمرار، ضاعفـت مـن شـعوري بالتعـب والغثيـان، تملكنـي الـدوار، وفقـدت قدرتـي علـى التـوازن، ولـم أعـد أسـتطيع أن أمسـك نفسـي عـن التقيـؤ، فسـاعدتني فيـرا،ً وأمسـكتني مـن قميصـي، ومـددت رأسـي إلـى الخـارج، متجـاوزا حاجـزاليخـتالجانبـي،لأتقيـأفيميـاهالبحـر،فجـأًةوأنـاأنظـرإلـى ميـاه البحـر، لمحـت سـمكة سـوداء طولهـا حوالـي خمسـة أمتـار، لهـا جسـمطويـلملفـوفانسـيابي،تمـُّرأمامـيبسـرعةكبيـرةموازيـًة لجسـم القـارب، وعلـى عمـق متـر مـن سـطح المـاء، منظرهـا المخيـف وشـكلها الغريـب وأنفهـا المدبـب الـذي يشـبه الرمح، جعلنـي أتخيل أنها سمكة المنشـار التـي قـرأت عنهـا مرة في مجلة ناشـيونال جيوغرافيك، لكـن سـرعتها كانـت غيـر معقولـة، فتصـورت أنها ربمـا طوربيد أطلقته إحـدى الغواصـات مـن تحـت الماء باتجاهنا، ولكنه أخطأنا. إن شـعوري بالدوخـة وعـدم التـوازن نتيجـة للمعلومات المتضاربـة التـي تصـل إلـى مخـيمـنعينـَّيوأذنـَّي،ربمـاجعلتنـيأتوهـمهـذاالمنظـر،وظننـتأنه نـوع مـن الهلوسـة، نظـرت إلـى وجـه فيـرا، فلاحظـت علامـات الرعـب باديـًة عليهـا، قلـت لهـا إنهـا سـمكة المنشـار، ولكـن لخبرتهـا الطويلـة بالميـاه والأسـماك، عرفـت بأنهـا ليست سـمكة المنشـار، وقالـت لـي مسـتحيل، إن سـمكة المنشـار ليليـة، وهـي عـادة تلجـأ إلـى النـوم خـلال

النهـار، ولا تهاجـم فرائسـها في هـذا الوقـت مـن النهـار. تجاوزتنـا هـذه السـمكة لمسـافة حوالـي مئـة متـر، ثـم قامـت بحركـة التفـاف، بحيـث أصبحـت علـى شـمال اليخت، وضاعفت من سـرعتها،

وعـادت باتجاهنـا مـن جديـد، صرخـت فيـرا محاولـة أن تلفـت نظـر خليـل وجوزيـه إلـى هـذا الحيـوان الغريب الذي سـيهاجمنا، وعانقتني، وتشـبثنا بطـرف الحاجـز، لكننـي حتـى هذه اللحظـة لم أكن متأكداً من حقيقـةمـاأرىأمامـي.ار ّتجالمركـب،ومـالعلـىجانبـهلمـااصطدمـت السـمكة بجانـب هيـكل القـارب المصنـوع مـن الفايبـر جـلاس، وسـمعت صـوت طقطقـة الهيـكل، وهـو يئـن عنـد اختراقـه، ومـن شـدة الصدمـة طـارت جوزيـه بالهـواء مـن علـى سـطح اليخـت، لأنهـا لـم تنتبـه إلـى صرخـة فيـرا، وبـدا لـي أن جوزيـه مـن قـوة الارتطـام بالمـاء أصبحـت عاجـزة عـن السـباحة، ونظـرت إلـى خليـل، وكان مـازال بمكانـه خلـف المقـود، أخـذت الميـاه تتدفـق إلـى داخـل اليخـت، ونظـرت إلـى مقصـورة القـارب، فاكتشـفت أن طبقـة الدهـان السـوداء ًالتـي كانـت تغطـي جسـم السـمكة، قـد انكشـطت عنـد رأسـها نتيجـة لاحتكاكهـا بجسـم القـارب، وظهـر تحتهـا جسـم السـمكة المصنـوع مـن الألمنيـوم، أصبحـت السـمكة عالقـة بالمركـب، وقـد أطبقـت عليهـا صفيحـة الفايبـر جـلاس المتينـة والقويـة بشـكل اسـتثنائي، التـي تشـكل هيـكل القـارب، فثبتتهـا في مكانهـا، ومنعتهـا مـن الحركـة، وشـاهدت خليـل وهو يقفـز إلـى المـاءسـابحاًباتجـاهجوزيـهمحـاولاًإنقاذهـا.بغتـًةظهـرتمـنبعيـد سـمكة ثانيـة، يعلـو ظهرهـا زعنفـة شـراعية قصيـرة، أخـذت تزيـد مـن سـرعتهاباتجاهنا،واتجهـتنحـوجوزيـهمباشـرًةفضربتهـا،فتلـون المـاء بلحظتهـا باللـون الأحمـر، ثـم ابتعـدت لمسـافة قصيـرة، ودارت دورة كاملـة، ورجعـت باتجـاه خليـل، أدرك خليـل متأخـراً خطـورة الموقـف، فسـبح باتجاهنـا، لكـن السـمكة كانـت أسـرع منـه، واخترقتـه

بمنشـارها، ًفانفجرت دمـاؤه، وسـمعت صرخـة قصيـرة ثـم اختفـى. بعدهـا فـورا اتجـه هـذا الشـيطان إلـى هيـكل قاربنـا، وأخـذ يصـدم هيـكلالقارببتـأّنبضربـاتخفيفـةمـنجديـد،محـاولاًزيـادةفتحـة الخـرق التـي أحدثهـا الطوربيـد الأول، ليمكنـه مـن الهـروب مـن هيـكل الفايبـر جـلاس المتكمـش بـه بإصـرار، وكأنـه يعـرف بالتحديـد مـاذا يفعـل. القـارب يغـرق مـع الجسـم المعدنـي المتشـابك معـه إلـى داخـل المـاء، لـم أكـن مسـتعداً لهـذه الكارثـة، لكـن كلمـا ازداد وعـي الإنسـان بمـا يجـب أن يفعلـه في الأوقـات الحرجـة، تزايـدت احتمـالات نجاتـه. جذبتنـي فيـرا مـن يـدي، ودفعتنـي بقـوة إلـى البحـر، لكيـلا تعطيني مجـالاً للتـردد، وقفـزت خلفـي إلـى المـاء، إن علينـا أن نصمـد، وأن نسـبح باتجـاه الشـاطئ الـذي يبعـد عنـا حوالـي ثلاثمئـة متـر، لـم أكـن في وضـع جسـمي طبيعـي، وليس عنـدي الخبـرة بالسـباحة للتعامـل مع هـذه الحالـة، ولكـن هنـاك أشـياء بسـيطة يعطيـك إياهـا القـدر لتتعلـق بهـا، ولتسـاعدك علـى الصمـود، فعلـى الرغـم مـن سـرعتي البطيئـةً بالسـباحة، إلا أن فيـرا فضلـت أن تبقـى إلـى جانبـي، لتؤمـن لـي نوعـا مـن الحماية، ولتشـعرني بالثقـة. أخـذت تطلب مني ألا أشـد عضلاتي مـن الخـوف، لكيـلا أتصـارع مـع نفسـي، ومـع البحـر بالوقـت نفسـه، وهـي تقنعنـي بـأن الطوربيـد لـم يشـاهدنا، ونحـن نقفـز مـن اليخـت، وأنـهمشـغولبإنقـاذأخيـه،وأنعلـَّيأنأسـبحمسترخياًومسـتفيداً مـن تيـار البحـر الـذي يجذبنـا نحـو الشـاطئ، لعـل الشـيء الوحيـد الـذي كان يخيفهـا في هـذه اللحظـة، أن رائحـة الـدم سـتجذب أسـماك القـرش الكثيـرة الموجـودة في هـذه المنطقـة نحونـا، ومـا كادت قدمـاي

تلامسـان قعـر الشـاطئ الرملـي، حتـى ركضـت بشـكل هسـتيري إلـى داخـل الجزيـرة، تـاركاً فيـرا ورائـي، راغبـاً في أن أسـتمر بالركـض مـن دون توقـف.

بعـد قليـل أدركنـا أننـا أصبحنـا وحدنـا علـى هـذه الجزيـرة النائيـة، كان أمامنـا بالداخـل تلـة صغيـرة، لا يزيـد ارتفاعهـا علـى خمسـمئة متـر، تفصـل هـذه البقعـة التـي نزلنـا بها عـن باقي جسـم الجزيرة، لذا انقلـب مزاجنـا مـن الشـعور بالسـعادة، لنجاتنا مـن المـوت، إلـى الخوف مـن المسـتقبل المجهـول الـذي ينتظرنـا. نظـرت إلـى وجـه فيـرا وكان جامـداً لا أثـر للحيـاة فيـه، إنهـا بخبرتهـا الطويلـة التـي عاشـتها علـى أرخبيـل جـزر سيشـل، تـدرك معنـى وجودنا وحدنا على هـذه الجزيرة،ً لقـد اسـتنزفت سـباحة الثلاثمئـة متـر جميـع قـواي، ولـم أعـد قـادرا علـى الحركـة، وشـعرت بالتعب والعطـش، لـم يكـن هنـاك أي مظهـر للحيـاة سـوى بعـض شـجيرات المانجـروف الخضـراء المبعثـرة علـى الشـاطئ، والتي تعيـش علـى ميـاه البحـار، قامت فيـرا واقتطعت بعض أوراق شـجرة المانجـروف مـع فروعهـا الصغيـرة الطريـة، وأعطتنـي إياها لكي تخفف من شـعوري بالعطش والجوع، ولكن عندما تذوقتها وجدتهـا مالحـة ومـرة، وأننـي غيـر قادر على ابتلاعهـا، إنها تريدني أن آكل هـذه الأوراق الخضـراء، لكـي أسـتعيد قوتـي، إذ إن الحـل الوحيـد أمامنا للنجاة، هو أن نتسـلق غداً في الصباح هذه التلة الصغيرة التي

أمامنـا، لنصـل إلـى داخـل الجزيـرة. اسـتولى علـّي اليـأس، وشـعرت بـأن أمـوري قـد انتهـت، وأنـي

أصبحـت ضعيفـاً، ولـن أتمكـن غـداً مـن تسـلق هـذه التلـة، فقـدت في

هـذه اللحظـة شـهيتي للحيـاة، ولـم يعـد وجـود فيـرا إلـى جانبـي يعنيني بأي شـيء. اعتبرت أن غرقان اليخت هي إشـارة من السـماء باقتراب أجلـي، وأصابنـي خـوف شـديد مـن المـوت، وتصـورت أنـي علـى حافـة فقـدان الوعـي، كنـت أسـمع كلمات فيـرا وهـي تتحـدث معي باسـتمرار

مـن دون أن أفهمهـا. تعترينـيرغبـةعارمـةفيأنأغلـقعينـَّي،وأنأسـافربهـدوءبعيـدا

عـن هـذا العالـم الـذي يبـدو أن الشـقاء فيـه لـن ينتهـي، أثنـاء نومـي تـراءت لـي خيـالات تتحـرك، وتتداخـل فيهـا الأضـواء، سـمعت بعـض الأصـوات التـي تشـبه اللغـة الكريوليـة، وتوهمـت أن فيـرا تضـع بعـض نقاط الماء على شـفتي، إني لا أشـعر بالزمان ولا المكان، ولا أعي ماذا يـدور حولـي، إنـي حتـى أحـس بجسـمي وكأنـه ليـس مني، رأيت نفسـي ممـدداًعلـىالرمـل،وأنـاأنظـرإليهمنارتفاععـاٍل،ثمتركته،وتابعت سـيري في نفـق مضـيء لا نهايـة لـه، إنـه نـوع مـن الحلـم الجميـل الـذي أشـعر فيـه بالطهـارة ًالنفسـية والـولادة مـن جديـد، ولا أرغـب في أن أسـتيقظ منـه، متمنيـا أن يطـول ويسـتمر مـن دون انقطـاع، لكـن صوت بـكاءفيـراظـليقطـععلـَّيانسـيابهـذاالحلـماللذيـذ،إنرغبتهـا الشـديدة في أن أعـود إلـى الحيـاة يصيبنـي بالإحبـاط، وهـذا مـا تغلـب بالنهايـة علـى مشـاعري، ودفعنـي إلـى العـودة والتمسـك بالحيـاة مـن

أجلهـا، إن حبهـا هـو الدافـع الوحيـد الـذي دفعنـي للرجـوع إليهـا. تأكـدت مـن حقيقـة مـا يجـري، وأنا أجد نفسـي أهتـز بداخل قارب محلـي صغيـر، يسـميه الصيـادون بانـكا، وهو مصنـوع مـن الخًشـب الخفيـف، مثبتـة علـى أطرافـه قضبـان القصـب، لتعطيـه نوعـا مـن

التـوازن، ولتمنعـه مـن الاصطـدام بالشـعب المرجانية، وهـو يتحـرك طافيـاً بالميـاه الضحلـة، خليـط مـن الأحـلام والتخيـلات والمشـاهدات الواقعيـة التـي لا أجـد رابطـاً بينهـا، وبالنهايـة توقـف القـارب، ظننـت أننـا درنـا خـلال رحلتنـا حـول الجزيـرة التـي نقيـم فيهـا، وانتقلنـا إلـى طرفهـا الآخـر، حملنـي رجـلان محليـان لا أذكرهمـا في رؤيـة مشوشـة إلـى كـوخ مبنـي مـن القصـب، إن الضـوء الضعيـف جعـل الأشـخاص والمناظـر، أشـبه بحلـم ضبابـي، يثير أقصـى درجـات الحـس الوجدانـي

بأعماقـي، نتيجـة عودتـي مـن رحلـة المـوت. فتحـتعينـَّيباليـومالثانـيلأجـدفيـراتبكـي،وهـيجالسـةإلـى

جانبـي، وسـمعتها وهـي تتكلـم، ولكني لم أميز سـوى نغمة رنين صوتها التـي طالمـا جذبتنـي إليهـا. الوقـت يمـر بطيئـاً، لقـد شـاهدت خـلال رحلتـي قـوة كبيـرة تسـيطر على هـذا العالـم، مـا أعطانـي الشـعور بالرضـا عـن ذاتـي لاتصالـي بقـوة أكبـر منـي في هـذا الكـون، وأنـه لـميعـدهنـاكداٍعللخـوفوالقلـق،وهنـاكنسـخةثانيـةعـننفسـي موجـودة إلـى جانبـي طـوال الوقت، عرفت مـن صوت فيرا أنها بحدي،ً فـازداًدت ثقتـي بنفسـي، وتحسـن مزاجـي، إن دماغـي أصبـح نظيفـا خاليـا مـن ذكريـات الماضـي، إننـي أقـوم بتشـغيله مـن جديـد، لأكتشـف

علاقـات جديـدة في هـذا الكـون، لـم أكـن أدركهـا مـن قبـل. إننـي ممـدد علـى حصيـرة مـن القصـب علـى أرضيـة الكـوخ، ومسـترٍخوغيـرقـادرعلـىالحركـة،يسـيطرعلـَّيالصداع،وأشـعربين الحـين والآخـر ببعـض الآلام في بطنـي وتحـت ضلوعـي، وأتعرق بشـكل متواصل،وأحُّسبفيراوهيتحاولأنتسقينيالماءباستمرار،وتضع

ضمـادات مبللـة بالمـاء علـى رأسـي، وتقـوم باسـتبدالها طـوال الوقـت. ً بـين فتـرة وأخـرى، كان يأتـي رجًـل غريـب، ويعطينـي مـاًء سـاخنا
فيـه أوراق الريحـان، أعيـش مزيجـا مـن الهلوسـة البصريـة التـي لا ترتبـط بمـرور الوقـت، لـم تتحسـن أحوالـي الصحية، لكـن اضطراباتي الإدراكيـة بـدأت تخـف، فهمـت مـن هـذا الشـخص الغريـب الـذي يزورنـي بالكـوخ، ويعطينـي شـراب الريحـان، بأنـه مـن الهنـد، ولقـد حضـر بعـد غـرق سـفينته التـي كان يعمـل عليهـا منـذ خمـس سـنوات إلـى هـذه الجزيـرة، ولـم يغادرهـا منـذ ذلـك الوقت، ظـل الرجل الهندي يشـجعنيعلـىأنأقـاوممرضـي،إنعلـَّيأنأكافـحمـنأجـلحياتـي لمـدةيومـينآخريـن،لأنـهفييـومالأربعـاءمـنكلأسـبوع،عـادًةتهبـط جماعـة الأسـتيز مـن السـماء علـى الجزيرة، وهـم وحدهم قادرون على معالجتـي مـن كل الأمـراض التـي أعانيهـا، وفهمـت مـن فيـرا أنها تعني بلغتهـم المحليـة أنهـم الجماعـة التـي تربـط بـين سـكان الأرض وسـكان السـماء، وسـيهبطون مـن السـماء بمركبـة التنـين، إنهـم وحدهـم الذيـن

يعرفـون كل شـيء عـن هـذا العالـم. ً في اليـوم الثالـث، أحسسـت بأننـي مازلـت ضعيفـا، ولا أقـوى علـى الحركـة، تتنازعنـي عواطـف متضاربـة من السـعادة والإحباط والرغبة في أن أبقـى بجانـب فيـرا، تتـراءى أمامـي بعـض النقـاط الضوئيـة

البيضـاء، وهـي تسـبح في الفراغ بحركـة بطيئـة مـن دون هـدف. بغتـة دخـل إلـى الكـوخ الموجوديـن فيه اثنـان من المخلوقـات الغريبة، وهمـايرتديـانبدلتـينفضيتـينلامعتينمـننسـيجناعـم،ذَّكرانـي بملابـس طيـاري المقاتـلات الحربيـة، كان شـكل الواحـد منهمـا يشـبه

شـكلالبشـرإلـىحـّدكبيـر،ولكنـهنحيـفجـداً،وطولـهلايزيـدعلـى متـر واحـد، لـه بشـرة برتقاليـة تميـل إلـى الصفـار، ورأس بيضـوي كبيـر أصلـع، يسـتند على رقبـة طويلـة جـداً، تبـرز منهـا العضـلات والعـروق، لتتمكـن مـن حمـل وزن هـذا الـرأس الثقيـل، ويتميـز الوجـه بعينـين كبيرتين سـوداوين، لا تغطيهمـا الجفـون، لتبقيـا مفتوحتـين بشـكل دائـم، وأنـف بشـكل هـرم صغيـر، يلتصـق علـى وجهـه، فـوق فمه الصغير وشـفتيه الدقيقتـين. شـعرت بأنهمـا ليسـا غريبـين عنـي، ولا

شـك أننـي كنـت أتواصـل معهمـا عـن طريـق التخاطـر. لـم أجـد نفسـي إلا وأنـا ممـدد علـى سـرير فـولاذي في غرفـة صغيـرة، وقـد تم توصيلـي إلـى عدد من الأسـلاك والأنابيب، ولاحظت أنبـوب السـيروم الـذي يصـل بـين كيـس السـيروم المعلـق إلـى يسـاري، وبـين القنينـة الوريديـة الداخلـة في يـدي، وحولـي عـدد كبيـر مـن الشاشـات الإلكترونيـة، التـي تشـبه شاشـات التلفزيـون مغطيـة جميـع جـدران الغرفـة، وهـي تومـض بألـوان وخطـوط متحركـة، بعضهـا علـى شـكل أمـواج هندسـية تتحـرك باسـتمرار، لمراقبـة علاماتـي الحيويـة، وشـاهدت ضـوءاً أبيـض يميـل إلـى الأزرق فوقـي مباشـرة، يتدلـى مـن السـقف، يتغلغـل في أعماقـي بنعومـة، ويدخـل السـرور إلـى نفسـي، مـا جعلنـي مبتهجـاً، وبـدأت أسـتعيد وعيـي، وتمنيـت لو أن فيـرا كانت إلى

جانبـي في تلـك اللحظـة، لتشـاركني سـعادتي. في اليوم الرابع غادرت الطبق الطائر، لقد اسـتعدت كامل عافيتي

وقوتـي، وأنا بـدوري عاجـز عـن شـكرهم، لقد عدت إلـى الحياة بفضل هـذه المخلوقـات التـي لا أعرفهـا، والتـي أنقذتني من حافة الموت.

بعـد يومـين وأنـا جالـس بالكـوخ مـع فيـرا والرجـل الهنـدي الـذي أصبـح صديقنـا، حيـث يلازمنـا باسـتمرار، بـدأت أسـترجع تفاصيـل جسـم الصحـن الطائـر، وأنـا أغـادره، إنـه يشـبه قرصـاً كبيـراً فضـي اللون، قطره حوالي ثلاثين متراً، يشـبه في شـكله طبق الطعام، تحيط بجسـمه علـى الجوانـب فتحـات مضيئـة، تشـبه النوافـذ، يجثـم علـى سـطحمسـتٍومـنالرمـالالبيضـاء،ولاشـكأنهـامنطقـةمخصصـة

لهبـوط الصحـون الطائـرة. أنـا حتـى الآن لـم أسـتطع أن أسـتوعب، طبيعـة مجموعـة هـذه

الأحـداث التـي تجـري مـن حولـي، عندمـا اجتمعـت باليـوم التالـي مـع صديقنـا الهنـدي، شـرح لنـا أن المخلوقـات الفضائية القادمة من كوكب الزهـرة،تهبـطفيكليـومأربعاءعلـىهـذهالجزيـرة،جالبـًةبعـض الحاجـات الضروريـة لسـكان الجزيـرة، مـع كميـات كبيـرة مـن الوقـود، وأن هـذه الجزيـرة محميـة بحقـول كهرومغناطيسـية قويـة، تجعلهـا غيـر مرئيـة، ليـس فقـط لأجهـزة الـرادار، ولكـن أيضـاً لعيـون البحـارة الموجوديـن في عـرض البحـر، إن أي مـادة تخترقهـا تحتـرق، كمـا أن هنـاك مدافـع لليـزر منصوبـة علـى قمـة التلـة، وهـي قادرة علـى إصابة الأهـداف المتحركـة علـى مسـافات بعيـدة. وأضـاف: إنـه شـاهد مـرة منظـراًً كأنـه مأخـوذ مـن فيلـم للخيـال العلمـي، عندمـا أطلـق المدفـع شـعاعا باتجـاه طائـرة صغيـرة، كانـت تقترب من الجزيـرة، فعلى الرغم منأنهلميَرأشعةالليزر،لكنهشاهدالطائرةوهيتحترقمثلعلبة الكبريـت، ثـم تسـقط في البحـر، وأن هـذا الصـوت الخفيـف المسـتمر الـذي نسـمعه طـوال الوقـت، هـو أزيـز محـركات الديـزل للمولـدات

الكهربائية الموجودة على الجزيرة، إذ إن الحًقول المغناطيسية ومدافع الليـزر، تتطلـب طاقـات كهربائيـة عاليـة جـدا، وتقـوم المولـدات بتأمـين الكهربـاء اللازمـة لهـا، فسـألت صديقنـا: إذا كانـت الأمـور تجري بهذه البسـاطة، فكيـف لـم تتمكـن مدافـع الليـزر مـن إغـراق يختنـا الصغيـر؟ فأجابنـي:إنـهفيذلـكالوقـتالـذيكّنـانقتـربفيـهمـنالجزيرة،كان هنـاك قـارب آخـر صغيـر فيـه بعـض رجـال الأعمـال المهمـين، يقتربـون مـن شـاطئ الجزيـرة أيضـاً، وربمـا ظنـوا أن هـذا القـارب يعـود إلـى هـذه المجموعـة، فالتبـس الأمـر علـى أجهـزة المراقبـة الإلكترونيـة، ولمـا اكتشـفت متأخـرة، أنكـم مجـرد سـياح تائهـين في البحـر، أرسـلت في أثركم طوربيدين بحريين، يشـبهان في شـكلهما سـمك المنشـار للقضاء

عليكمـا، لكنكمـا لحسـن الحـظ، تمكنتمـا مـن النجـاة. يبـدو أن هنـاك اتصـالات مسـتمرة بـين بعـض مراكـز القـوى في الكـرة الأرضيـة وبعـض المخلوقـات الفضائية القادمـة مـن كوكـب الزهـرة، لتمكينهـا مـن السـيطرة على الكرة الأرضيـة، الخيانة موجودة منـذ العصـور الأولـى للتاريخ، حيـث يقـوم بهـا بعـض الأشـخاص للتآمر مـع الغريـب ضـد أهلهـم وأبنـاء وطنهـم، إن هـؤلاء الأشـخاص يؤمنـون بأنـه عندما يسـتقر الأمـر لسـكان كوكـب الزهرة بالسـيطرة على الكرة الأرضية، سـيصبحون أعوانهم، ويسـاعدونهم في حكم شـعوب الأرض. إن ظهـور العملـة الإلكترونيـة منـذ فترة قريبة، حيث يتم تبادل المال علـى شـبكة الإنترنـت مـن دون وسـاطة البنوك، جعل المؤسسـات المالية تـدرك أنهـا لـن تسـتطيع أن تتحكـم بحركـة المـال في المسـتقبل، نتيجـة لهـذا التقـدم الهائـل بالتكنولوجيا الـذي يشـهده العالـم في كل يـوم، مـا

سيتسـبب في إفلاسـها، ويجعلهـا خـارج اللعبـة السياسـية التي ظلـت تهيمـن عليهـا لفتـرة طويلـة، إن سـيطرة المؤسسـات الماليـة علـى حيـاة سـكان الأرض يوشـك على الانتهاء. ً

إن جميـع سـكان الجزيـرة المحليـين الذيـن يقيمون حاليـا عليها، هم مـن المتقدمـين بالعمـر، لأن الأطفـال والشـباب قد تم نقلهـم إلـى كوكب الزهـرة، حيـث تعمـل الحكومة هناك على إعـادة تأهيلهم وتحضيرهم، ليكونـوا جاهزيـن عنـد إعادتهـم إلـى الأرض، ليكونـواً يدهـا اليمنـى في حكـم الكـرة الأرضيـة، وأنهـم لـن يسـمحوا لنـا أبـدا بمغـادرة هـذه الجزيـرة، لكيـلا نكشـف هـذا السـر الـذي يعملـون علـى إخفائـه عـن

عيـون النـاس. فكـرت أننـي يمكننـي أن أتأقلـم مـع فكـرة البقـاء في هـذه الجزيـرة،

والحيـاة عليهـا بـين سـكانها المحليـين، وخطـر لـي أنـه حتـى يمكننـي أن أسـتفيد مـن خبرتـي كمهنـدس مدنـي في المسـاعدة في بناء مهابط ذات أرضيـة مسـطحة صلبـة للصحـون الطائـرة، لكـن فيـرا عارضـت فكـرة

بقائنـا بشـدة، وكأنهـا لا تعـرف خطورة محاولتنـا الفـرار منهـا. مضـىعلينـاعلـىهـذهالجزيـرةخمسـةأيـام،مـرتعلـَّيكأنهـا خمس دقائق، إذ إن سـرعة الزمن غير ثابتة للأشـخاص، فهي تتوقف

علـى أحوالهـم النفسـية التـي يمـرون بهـا. أخـذت أفكـر بالسـبب الـذي يضغـط علـى فيرا لتدفعنـا إلى مغادرة

الجزيـرة، علـى الرغـم مـن معرفتهـا الأكيـدة بخطـورة إقدامنـا علـى هـذه المحاولـة، فـلا َح لـي بأنها قـد تكـون حامـ ًلا، وأنهـا تخشـى مـن أن يقـوم سـكان كوكـب الزهـرة بمصـادرة طفلهـا عندمـا تلـد، ويأخذوه إلى

كوكبهـم، لكنني نزعـت هـذه الفكـرة مـن رأسـي، وبـدأت أرسـم خطـة عمليـة لنتمكـن خلالهـا مـن مغـادرة الجزيـرة.

اقترحـت فيـرا أن نعمـل طوفـاً مـن عيـدان القصـب الموجـود بكثـرة في الجزيـرة، وأن نربـط جـذوع القصـب مـع بعضهـا بحبـال نصنعهـا يدوياً مـن ليـف أشـجار النخيـل، ونلقـي ًالطـوف في البحـر، ونعتليـه لتجرفنـا التيـارات البحريـة القويـة بعيـدا عـن الجزيـرة، تخيلـت أنهـاً شـاهدت هذه الخطة في أحد الأفلام السـينمائية، لأنني أعرف جيدا أن هـذا الطـوف لـن يسـتطيع أن يثبـت إلا لبضـع مئـات مـن الأمتـار في ميـاه هـذا البحـر الهائـج، ثـم يبـدأ بالتفـكك نتيجـة لقـوة الأمـواج

والتيـارات البحريـة. انطلقـت في منتصـف الليـل مـع صديقنـا الهنـدي، والقمـر غيـر

المكتمـل يلقـي بضوئـه الشـحيح، مبـدداً الظلام الواسـع المخيـم علـى الجزيـرة، أوى السـكان المحليـون إلـى أكواخهـم بسـلام، اتجهنـا نحـو خزانـات الوقـود الموجـودة في قلـب الجزيـرة، وعندمـا وصلنـا إليهـا، بـدأت أتفحـص الأنابيـب الموصولـة إلـى الخزانـات، حتـى توصلـت إلـى صمـام تفريـغ الوقـود، فتحتـه، وأخـذ الوقـود يتدفـق علـى الأرضيـة الترابيـة المكسـوة بالأعشـاب، تركـت الوقـود يتدفـق لأكثـر مـن نصـف سـاعة، حتـى غطـى مسـاحة واسـعة مـن الأرض المغطـاة بالأغصـان الجافـة والأعشـاب، ثـم ألقـى صديقـي الهنـدي عـوداً مـن الثقـاب علـى التربة المبتلة بالوقود، فاشـتعلت النيران، وبدأت تنتشـر بسـرعة كبيرة آكلـة الأعشـاب والشـجيرات وكل مـا تصادفـه في طريقهـا، لنشـغل سـكان الجزيـرة بإطفـاء الحريـق، وليصبـح إخمـاده هـو المهمـة الأولـى

التـي تسـيطر علـى تفكيرهـم، ركضنـا عائديـن إلـى الكـوخ، وأخذنـا فيـرا متسـللين إلـى شـاطئ البحـر، حيـث توجـد زوارق البانـكا العائـدة للصياديـن وهـي مصفوفـة بعضهـا إلـى جانـب بعـض، صادرنـا أحـد الـزوارق، وانطلقنـا نجـدف بسـرعة جنونية إلى داخـل البحر، آملين أن تجذبنـا التيـارات القويـة بعجلـة بعيـداً عـن شـواطئ الجزيـرة، متمنـين أن نلتقـي بالمصادفـة بباخـرة تجاريـة في عـرض البحـر، لتحملنـا معهـا

في رحلتهـا. وبينمـا نحـن نبتعـد عـن الشـاطئ، شـاهدت سـمكة المنشـار تتجـه

نحونـا بسـرعة كبيـرة، فاصطدمـت بنـا، وانقلـب القـارب علـى جًانبـه، وجـدت نفسـي بالمـاء، وأحسسـت أننـي أبتلـع المـاء، ولـم أعد قـادرا على التنفـس، وأن دقـات قلبـي أصبحـت بطيئـًة، وأني على وشـك أن أموت، هنـا فتحـت عينـي، لأجـد نفسـي ممـددا علـى أرضيـة البلكونـة، وأنـا أتصبـب عرقـاً، وإلـى جانبـي فيـرا وهـي تجهـش بالبـكاء، وأمامي خليل

وجوزيـه، وقـد انطبعـت علـى وجهيهمـا علامـات الخـوف والدهشـة. لقد مضـى علـى تناولـي الفطـر السـحري أكثـر مـن أربـع سـاعات، ذهبـت خلالهـا في رحلـة طويلـة إلـى إحـدى الجـزر النائيـة لمقابلـة المخلوقـات الفضائيـة القادمـة مـن كوكـب الزهرة، ذكرت لـي فيرا، أنها كانـتقلقـًةجـداً،وهـيتشـاهدنيطـوالالوقت،وأناأتعـرق،وأرتعش، وأهلـوس حـول القادمـين مـن كوكـب الزهـرة، حتـى إنهـا حاولـت أن تأخذنـي إلـى المستشـفى، إلا أن جوزيـه طمأنتهـا وهدأتهـا، وأفهمتهـا بـأن هـذا الأمـر طبيعـي للذيـن يتعاطـون الفطـر السـحري لأول مـرة، إضافـة إلـى أن المستشـفى سـتخبر الشـرطة حـول حادثـة تعاطـي

المخـدرات، مـا قـد يـؤدي إلـى وقوعنـا في مشـاكل نحـن في غنـى عنهـا. شـعرت خـلال رحلتـي، بـأن المناظـر التـي عشـتها كانـت حقيقيـة جـداً، وأننـي كنـت جـزءاً منهـا، إن تفاصيلهـا الدقيقـة مازالـت عالقـة فيمخيلتـي،وماثلـًةأمـامعينـّي،فيهـذهاللحظـةخطـرلـي،لأتأكـد مـن حقيقـة الرؤيـا التي عشـتها خـلال رحلتـي، بـأن أسـأل فيـرا فيمـا إن كانـت حامـ ًلا، نظـرت إلـى وجههـا، فلاحظـت عينيهـا تبرقـان بالسـعادة، وهـي تحـاول أن تخفـي ابتسـامة خفيفـة وخبيثـة، ارتسـمت علـى شـفتيها، إنهـا تخفـي الأمـر عنـي، معتقـدة أنهـا عندمـا تتقـدم في مراحـل الحمـل، سـيكون مـن الًصعـب علينـا القيـام بعمليـة الإجهـاض، لأجـد نفسـي بالنهايـة مضطـرا للـزواج منهـا، إنها حتـى الآن، لم تعرف

أن حياتـي كلهـا لا قيمـة لهـا مـن دونهـا.