ثلاث قصص قصيرة مخيفة

قصة قصيرة

الحدأة

بقلم أمين الساطي

في البداية لم أصدق ما رأيته في الفيديو القصير الذي التقطه أحد الهواة عن طائر الحدأة ، وهو يتعمد إشعال الحرائق في غابات أستراليا ، فلقد ظهر الطائر بشكل واضح ، وهو يقوم بالتقاط غصن صغير تشتعل فيه النار من طرفه ، ثم يطير ليرميه في مكان آخر من البرية . إن نقله للعيدان المشتعلة من مكان لآخر يساهم في توسيع حرائق الغابات ، فهو يقوم بحرق كل ما ينبت على الأرض من الأعشاب والأشجار التي تعيق رؤيته لفرائسه الصغيرة ، لكنه بحرقه للغابات يحصل على جثث ضحاياه الصغيرة ناضجة مشوية ، جاهزة لتكون وليمة فاخرة ، مكافأة له على أفعاله الشيطانية.

هذا الفيديو القصير ، شرح لي سبب انتشار الحرائق بالوقت نفسه في عدة مواقع بالغابات المحيطة بقريتنا بتلون ، وهي قرية خضراء جميلة ، تقع في أعالي سلسلة جبال لبنان الغربية ، تحيط بها غابات شجر الزان والتنوب ، وتط ُّل على الأودية العميقة التي تجري فيها المياه المنحدرة من قمم الجبال بشكل دائم ، ما دفعني لمحاولة الحصول على طائر الحدأة لمراقبته عن كثب ، قبل أن أشرح لأهل ضيعتي سبب انتشار هذه الحرائق المتزامنة في منطقتنا.

بالنهاية تمكنت من الحصول على هذا الطائر ، ووضعته في قفص كبير في حديقتنا ، وبدأت بمراقبته . لقد أدهشني لونه البني الغامق المائل إلى الاحمرار مع الريش الأسود ، الذي يغطي جناحيه وعينيه الحمراوين ورجليه البرتقاليتين . وبالرغم من أن طوله لا يزيد على نصف متر، فلقد بدا لي مرعباً ، وتناقضت هذه الألوان مع حجمه الصغير ، فشعرت بكراهية غريبة نحوه.

أدخلت إلى القفص غصن شجرة صغيراً جافاً ، بعد أن أشعلته من طرفه وتركته داخل القفص ، توقعت أن يحمل الحدأة هذا العود وينقله إلى جدار القفص ، لكي يشب فيه النار ، ليتمكن من الفرار ، ولكنه لم يتحرك من مكانه ، ما أثار غضبي ، فأخذت أوخزه بهذا العود المشتعل . في البداية كان يتحرك ببطء ليتجنب نار العود ، وشعرت بأنه كان يتحداني ، ولعله أدرك أنني كنت أحاول إثبات قوتي بإظهارها بالتعامل بقسوة معه ، فقدت السيطرة على أعصابي ، فأخذت العود وقربته من رأسه ، ولا أدري كيف جرت الأمور ، وبحركة غير مقصودة مني اقتربت النار من وجهه ، وفقأت إحدى عينيه ، فبدأ يصفر بصوت رفيع شديد ، يشبه صرير الريح من شدة ألمه . ومن المعروف أن لهذا الطائر صفيراً عالياً يسمع لمسافات بعيدة . انتابني شعور بالندم من تصرفي ، وقررت أن أطلق سراحه في اليومين القادمين ، حالما يتحس وضعه الصحي.

في أثناء نومي استيقظت على رائحة الدخان ، ونار الخشب المشتعل تملأ البيت ، اشتعلت النيران بسرعة رهيبة ، فخرجت مبتعداً عن بيتي إلى الحديقة حتى لا تلفحني النيران ، لفت انتباهي أن باب القفص كان

مفتوحاً،وأنطائرالحدأةالأعورلميكنفيداخله،وعلابالخارجصوتصراخالجيران،فزعٌورع ٌب وخو ٌف يعيشه أهالي الضيعة بعد اشتعال النيران في منازلهم وفي جميع أماكن القرية ، من دون سبب واضح . ما جعل الجميع يعتقد أن سبب الحرائق هو وجود جان تشعل النيران في القرية ، وأخذ الأهالي يحفزون أنفسهم لمحاولة إطفاء هذه النيران التي تشتعل في كل مكان.

نظرت إلى السماء ، فهالني وجود هذه الأسراب الصاخبة من الطيور ، التي تحمل في مناقيرها أعواداً مشتعلة ، وهي تنق ُّض على القرية ملقيةً العيدان المشتعلة عليها ، إنها صقور النار جاءت للانتقام.

قصة قصيرة

الاستحواذ

بقلم أمين الساطي

تكره زوجها لدرجة كبيرة ، ويتصاعد حقدها ، مع كل ليلة تمضيها معه بالفراش في غرفة النوم ، فرائحته العفنة تزكم أنفها ، وتشعرها بالرغبة في التقيؤ ، ما يدفعها دائماً للتفكير بالزواج من رجل آخر . فهو أكبر منها بخمسة وعشرين عاماً ، لقد تزوجته رغماً عنها وبضغط من أخيها الكبير ، الذي كان يعمل عنده في مصنع البسكويت . كان ه ُّم أخيها من وراء هذه الزيجة تحسين أوضاع عائلتهم . في البداية لم تقاوم كثيراً هذه الزيجة طمعاً في ثروة عريسها . وأوهمها أخوها ، بأن زوجها يعاني ارتفاعاً مزمناً في ضغط الدم ، ولن يعيش طويلاً ، حتى تنعم بتقاسم ثروته مع ابنته دلال من زيجته الأولى .

الآن قد مضى على زواجها أكثر من خمس عشرة سنة ، وزوجها المريض ، مازال رابصاً على قلبها . بمرور كل ليلة يزداد إيمانها ، بأن هذا المشؤوم سيعيش ليدفنها . أيامها تمضي بسرعة ، وجمالها التي طالما تباهت به بين قريناتها آخذٌ في الذوبان . الوقت يداهمها ، عليها أن تفكر بسرعة لكي تتخلص منه ، وبعد أن ترثه ، فهناك ألف شاب يتمنون الزواج منها .

أخبرتها إحدى صديقاتها ، بأن هناك لعبة اسمها المرآة ، ويمكنها أن تلعبها لتصبح خليلةً للشيطان ، وبعدها فإنه سيساعدها للتخلص من زوجها الاختيار . وهذه الطقوس لا يمكن أن تتحقق إلا مرة واحدة كل عشر سنوات . حيث يجب أن يكون الرقم النهائي للسنة هو ستة ، وأن يكون في السادس من يونيو ، لأن الرقم ستة هو رقم الشيطان .

ما زال هناك حوالي شهرين حتى يحين موعد ستة يونيو ، وأخذت تترقب الأيام وهي تمضي ببطء ، وهي تفكر باسم الرجل الذي عليها أن تنسج شباكها حوله ليتزوجها ، ولهف قلبها إلى سائق السيارة الخاص الذي يعمل عند بنت زوجها . إنه شاب وسيم وفقير، وأصغر منها بحوالي عشر سنوات ، ولا شك بأنه سيتمنى لو أنها تتزوجه ، عليها الآن أن تسيطر على أعصابها ، ولا تتسرع في خطواتها ، لكيلا تلفت نظر عائلة زوجها إليها .

في تلك الليلة المرتقبة ، ذهبت إلى غرفتها ، وأطفأت الأنوار وأقفلت بابها ، وأشعلت ست شمعات على طاولة صغيرة في ركن الغرفة ، لتجذب انتباه الشيطان . خلعت ملابسها ، وجلست عارية أمام المرآة ، تتأمل تضاريس جمال جسدها المتناسق ، وتتحسر على الأيام التي أضاعتها مع زوجها. ثم أغمضت عينيها ، وبدأت تتحدث إلى الشيطان ، لكي يظهر أمامها ، لتعقد معه صفقة ، تمكنها من التخلص من زوجها .

أخذت تنتظر ظهور الشيطان لتساومه على نفسها ، لكن شيئاً من هذا لم يحدث . وبعد ساعة من الانتظار ، خطر لها أن هذه هي مجرد لعبة ، ولا وجود للشيطان فيها ، وفكرت بأن تطفئ الشمعات ، وأن تنهي هذه الجلسة ، في تلك اللحظة ، أحست برياح صامتة باردة برودة الموت ، تتسرب من خلال باب البلكونة لتلفح وجهها ، ثم شعرت برعشة قوية في أطراف أصابع قدمها اليسرى ، فتصورت بأن الشيطان دخل منها إلى جسدها ، فأحست بصداع قوي ، وشعرت بضيق شديد في تنفسها وانقباض في معدتها ، فأدركت بفطرتها بأن

الشيطان قد خدعها واستحوذ عليها ، من دون أن يعطيها أي فرصة لمناقشة صفقة زوجها ، نظرت حولها فشاهدت بشكل مفاجئ ثعباناً أسود لامعاً ، يزحف باتجاهها على أرضية الغرفة ، مقترباً بسرعة منها ، وسمعت أصوات بكاء مرعبة ، تنبعث من وراء باب الغرفة ، فانتابتها نوبة من الهستيريا ، ولم تعد في هذه اللحظة قادرةً على التمييز بين مشاعر الضغينة التي تكنّها لزوجها ورعبها الشديد واحتقارها لنفسها ، فاندفعت بلا إرادة منها نحو بلكونة غرفتها ، تقودها رغبة الانتقام ، وتجذبها قوة خفية لا يمكنها تفسيرها ، لتجد نفسها تطير في الهواء ، ساقطةً من الطابق السادس إلى الأسفل ، باتجاه سطح الطريق .

قصة قصيرة

رسالة من العالم الثاني

بقلم أمين الساطي

كعادته في كل صباح، لا يكاد يفتح عينيه، حتى يلغي وضعية الصامت على جواله، ثم يبدأ بالنظر إلى شاشته، محدقاً بالرسائل التي وصلته في تلك الليلة، بينما هو يستعرض رسائله على واتس أب، لفتت نظره رسالة من أربع كلمات، ليس عليها اسم صاحبها، ولم يكن هناك رقم جواله، “لا تخف نحن بانتظارك”.

أدرك في لحظتها، بأنها مزحة من صديق تمكن من اختراق حسابه على الواتس أب، ولقد ترك الرسالة كتعليمة على نجاحه. بعد قليل اختفت من تلقاء نفسها من على الشاشة. انشغل طوال اليوم في عمله، ونسي موضوع الرسالة.

في صباح اليوم التالي، لما فتح الواتس أب فوجئ بوجود الرسالة نفسها، “لا تخف نحن بانتظارك”. شعر بنوع من الارتباك يشوبه بعض الخوف، لكنه بالنهاية أقنع نفسه، بأننا في عصر التكنولوجيا، ومن السهل اختراق الحسابات على الجوالات في هذه الأيام. كان أول ما قام به وهو في طريقه إلى مكتبه، أن اشترى

شريحة جديدة مسبقة الدفع، وغ ّير رقم هاتفه، ليتخلص من هذا الصديق المزعج.

لم ينم بشكل جيد في تلك الليلة، وهو يفكر فيما إذا كان هذا الشخص الغريب قادراً على اختراق جواله للمرة الثالثة. عندما نظر إلى شاشة جواله في الصباح، أصابه الجنون “لا تستطيع الهروب، مهما فعلت، نحن مازلنا بانتظارك منذ ثلاث سنوات”. بعد قليل اختفت الرسالة، وأدرك في هذه اللحظة، أن الموضوع أصبح جدياً، ولا يحتمل التأجيل. راجع شركة الاتصالات التي أصدرت الشريحة، لكنها بعد التدقيق في سجلاتها، لم تجد أثراً للرسائل الثلاث.

بدأ يحاول أن يتذكر الأحداث التي م ّر بها منذ ثلاث سنوات، حينما كان طالباً في السنة الثالثة في كلية التجارة، ومن الأوائل بين زملائه، وأموره المادية على ما يرام، وكان على علاقة بطالبة في صفه اسمها ناديا، ولقد وعدها بالزواج، إلا أن أسرته لم توافق على ذلك، لم يخطر على باله حتى الآن، شيء واحد يستدعي القلق، فشعر بالاطمئنان.

في تلك الليلة، لأول مرة شعر بالاسترخاء ونام بعمق. في الصباح كعادته فتح جواله مباشرة إلى الواتس أب ليجد هذه الرسالة: “الآن حان وقت الانتقام”. شعر بنوبة من الخوف، على الرغم من عدم وجود خطر حقيقي أمامه. ربما كل ما يشاهده على شاشة الموبايل، هو مجرد هلوسات وأحلام يقظة، عليه أن يتماسك ويسيطر على أعصابه، لكيلا يصاب بانهيار عصبي، كما حدث معه عندما كان في السنة الثالثة في كلية التجارة، وأمضى نحو ثلاثة أشهر في مستشفى الأمراض العصبية، بعد أن رحلت عنه صديقته ناديا.

رسالة من العالم الثاني

في صبيحة اليوم الرابع، وبينما هو يقود سيارته نحو عمله محبطاً كئيباً، لأنه لم يتمكن من النوم، ولو لدقيقة واحدة طوال تلك الليلة، سمع صوت إشعار بوصول رسالة على واتس أب، حاول أن يتناساها، لكن وجد نفسه في حالة لا إرادية يتناول الجوال، “بينما أنت تقرأ هذه الرسالة، تكون في طريقك إلينا، أنا وابنتك في انتظارك”، شرد للحظات، وتذكر صديقته ناديا التي انتحرت بعد أن تركها، رفع نظره عن شاشة الجوال، ونظر أمامه بهلع، ليشاهد سيارة شحن متوقفة على الإشارة الحمراء على بعد عدة أمتار منه، برزت من مؤخرتها القضبان الفولاذية التي تستعمل عادة في خرسانة الأبنية، تطل برؤوسها الحادة مشرئبة نحوه. ضغط فرامل السيارة بكل قوة، فسمع صوت احتكاك عجلات السيارة بالإسفلت، وش َّم رائحة احتراق كوليه المكابح، ثم علا صوت رهيب، تلاه ظلا ٌم دام ٌس.