الجحيم الآن

 في ليلة باردة، من ليالي شهر ديسمبر، كان الشرطي جالساً بمخفر قرية فقرا السياحية الواقعة على قمة جبل كسروان والمطلة على سفوح تلة صنين، يشرب الشاي ويتذكر أيام الماضي، ثم استرسل في تأملاته، محاولاً أن يتوقع ما ينتظره بهذه القرية في المستقبل، مترقباً بفارغ الصبر طلوع الشمس، لتنتهي فترة مناوبته. إذ فجأة تتوقف سيارة تكسي، وينزل منها رجلٌ مرتدياً بيجامة النوم، يبدو عليه الاضطراب الشديد، ويدلف مسرعاً إلى داخل المخفر.

 سأله الرجل عن الضابط المسؤول بالمخفر، فنظر إلى جواله، فوجد الساعة تقارب الرابعة صباحاً، فطلب منه أن يعود بعد حوالي خمس ساعات، حيث من المفروض حضور الملازم الأول في ذلك الوقت، لكن الرجل كان مرعوباً لدرجة كبيرة، مما قد يفكر فيه الشرطي، لو علم بحالته النفسية، وهو يروي له قصته، وسيعتقد بأنه مختلٌّ عقلياً، أو على الأقل أنه لن يصدقه. اعترف الرجل بأنه عاجز عن مغادرة المخفر، لأن هناك ثلاثة أشخاص يلاحقونه لقتله، وأصرَّ على البقاء بالمخفر حتى وصول الملازم الأول. قدم الشرطي كوباً من الشاي للرجل قائلاً: “شكلك تعبان على الآخر، اشرب الشاي الساخن لتستعيد قواك”، فهزَّ الشاب رأسه بالإيجاب، وبعد أن شعر بالاطمئنان بدأ يسرد قصته:

 عند وصولي البارحة إلى مطار بيروت، كانت الساعة الثانية بعد الظهر، توقعت أن أجد أبي في انتظاري بالمطار، ولاسيما أني غبت عن البيت ثمانية أشهر، حيث كنت أعمل مدرساً للغة الإنكليزية في إحدى ثانويات مدينة جدة بالسعودية، فانتابني القلق من عدم وجود أحد بانتظاري. حاولت أن أتخلص من الأفكار السلبية التي راودتني عن صحة والدتي المريضة بالسرطان، وألا أدعها تسيطر على تفكيري، وتعكر مزاجي الجيد الذي أشعر به وأنا أطأ أرض الوطن.

 أخذت تكسي، واتجهت إلى قريتي فقرا، عندما وصلت إلى البيت، فتح أبي الباب، كان هناك شيء غير طبيعي يحيط به، على الرغم من أنه ضمني بقوة، وبدأ يسألني عن أحوالي وأخباري، وقامت أمي بنشاط من أمام شاشة التلفزيون السوداء، والصوت مازال مسموعاً بلغة بدت لي غير مألوفة، وركضت نحوي وهي بصحة ممتازة، تحتضنني ودموع الفرح في عينيها. سألتها عن أختي؟ فأجابتني بأنها في غرفتها تذاكر دروسها، فاندفعت بسرعة إلى غرفتها يسوقني الشوق إليها. عندما فتحت الباب وجدتها جالسةً وراء الكومبيوتر، فاستغربت من ذلك! فعندما تركتها لم يكن عندها كومبيوتر، ولم يكن عندها الخبرة في استخدامه، فقامت من وراء الشاشة وعانقتني بقوة، وهي تبتسم ابتسامة غريبة، خطر لي أنها مصطنعة.

 أكثر ما لفت انتباهي في هذه اللحظات أنني لم أجد كلبي الجرمان شيبرد موجوداً لاستقبالي، لما سألت عنه أختي أجابتني: “إنه خرج في ذات يوم من البيت، ولم يعد”، كان هذا الجواب غير منطقي بالنسبة لي، فأنا أعرف كلبي، وأعرف مقدار إخلاصه لعائلتنا، فتقبلت جوابها عَلى مضض، لكيلا أفسد فرحتنا العائلية.

عندما جلسنا للعشاء، كان طعم البيض الذي أعددته أمي مختلفاً عن طعمه السابق الذي اعتدت عليه خلال العشرين سنة الماضية، لقد استخدمت أمي الزبدة في هذه المرة لقلي البيض، مع أنها تعرف جيداً أنني أكره البيض المقلي بالزبدة. لم أعلق على هذا الموضوع، لكيلا أفسد بهجة الجلوس حول المائدة، لكنني شعرت بأن الأمور ليست على ما يرام.

 بعد الانتهاء من العشاء، ذهبت إلى غرفتي لأنام باكراً، فلقد كنت مجهداً من السفر، وضعت رأسي على المخدة، ولم تغمض عيناي، كنت خائفاً من الخلود للنوم، دخل عقلي في مخاوف لا تتناسب مع الواقع الذي أعيش فيه، لقد شعرت بالرعب من أفراد عائلتي. في حوالي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، نظرت من ثقب صغير كنت قد حفرته، عندما كنت مراهقاً، في الجدار الذي يفصل غرفتي عن غرفة نوم والديَّ، كنت في تلك الأيام استخدمه لأتأكد من أنهما نائمان، قبل أن أهرب من نافذتي للذهاب والسهر مع أصدقائي في أحد الفنادق المنتشرة بكثرة في فقرا، ولقد اعتدت على أن أثبت قطعة خشبية في داخل هذا الثقب، حتى لا يكتشف أحدٌ وجوده.

 سحبت العود الخشبي من الجدار، فهالني المنظر الذي شاهدته، كانت العتمة مسيطرة بالكامل على الغرفة، بالكاد وبصعوبة تبينت شكل مخلوقين تركيبهما يشبه تركيب أجسامنا لحد بعيد، ولكنهما مضيئان بشكل غير عادي، وكأنهما مكونان من سائل لامع من البلازما لا يمكن وصفه، مغطى بلون رمادي لا يدوم طويلاً، فهو غير ثابت، ويتغير باستمرار من برتقالي إلى أصفر، ثم يعود إلى لونه الأول.

 أحسست بدوار مفاجئ وبصعوبة في التنفس، ولم أعرف كيف تمالكت نفسي، وأعدت العود الخشبي إلى مكانه في ثقب الحائط، ثم فتحت نافذة غرفتي، وانطلقت إلى الخارج، وأنا بملابس النوم، بعد أن أخذت معي محفظتي وجواز سفري، وركضت باتجاه ساحة القرية. تذكرت في أثناء ذلك مشهداً قديماً من أحد الأفلام السينمائية الأميركية، حيث يقوم المخلوق الفضائي بسحب دم رجل من سكان الأرض، ويحقنه في نفسه، لكي تساعده الجينات البشرية على تقمُّص شخصية وشكل ذلك الرجل، هذه هي خطة الكائنات الفضائية للسيطرة على الكرة الأرضية، ركبت أول تكسي صادفته في طريقي، وأنا أرتعش من الخوف، واتجهت إلى المخفر.

 سأله الشرطي وهو يتمعن النظر في عينيه: “هل أخبرت سائق التاكسي بالمخلوقات الفضائية”؟ فأجابه بالنفي، لأنه لم يثق به! وكان مرتاباً بأنه قد يكون واحداً منهم. ثم كرر الشرطي سؤاله مرة ثانية، ليفهم منه فيما إذا أخبر شخصاً آخر بهذا الموضوع، فأكد له الرجل، أنه لم يخبر أحداً، فهزَّ الشرطي رأسه: “إن ما عشته مجرد كابوس، كان حلماً مخيفاً شاهدته وأنت نائم، وقد انقضى إلى غير رجعة”، لكن الرجل عاد من جديد، ليؤكد ويقسم بأن ما شاهده كان منظراً حقيقياً، لا جدال فيه”. حينئذٍ قال الشرطي: “إذاً سأدخلك إلى غرفة الضابط المكلف بالمناوبة لهذه الليلة، لتكتب محضر ضبط بالحادثة”.

 تقدم الشرطي ثم فتح له باب الغرفة، عند دخوله المكتب، وجد شخصاً، لم يستطع تمييز ملامحه، يجلس على الكرسي الجلدي الفاره، خلف طاولة خشبية سوداء فخمة، وجهه باتجاه النافذة المقابلة، وظهره إلى الباب. حين اقترب منه، سمع صوت إغلاق الباب وراءه، ثم حركة القفل، حينها أدار هذا الشخص المجهول الكرسي، بحيث أصبح مواجهاً له، فقابل مخلوقاً رمادياً من سائل لامع من البلازما، نسخة طبق الأصل عن المخلوقين اللذين شاهدهما قبل ساعات في بيته. انتابته نوبة من الهلع، وبدأ قلبه يخفق بقوة، وشعر بقطرات العرق الباردة تنساب فوق جبينه، فالتفت إلى ورائه، ليجد الشرطي خلفه، وعلى وجهه ابتسامة صفراوية مصطنعة، ذكرته بالابتسامة التي شاهدها على وجه أخته.