سهرة مشؤومة في فندق الكاربيتول

على ما أذكر، كان ذلك في سهرة عيد رأس السنة الفائتة في فندق الكاربيتول، تحت إصرار زوجتي العنيدة، حضرنا الحفلة، بدعوة من صاحب شركة ستاركول للألمنيوم، حيث تعمل زوجتي سكرتيرةً له، أنا أعرف أن طبيعة عملها تقتضي عليها بأن تقدم بعض التنازلات الخفيفة، من أجل مصلحة العمل، وللحصول على تعويضات إضافية مع راتبها في آخر الشهر، لكني شعرت بالامتعاض من فكرة لقاء هذا الرجل، فأنا لا أرتاح له، لأَنني بطبيعتي شخص انطباعي، أحكم على الناس من النظرة الأولى، ولعل ذلك يعود إلى أن ذاكرتي تختزن في أعماقها منذ أيام الطفولة صورةً لصبيٍّ صغير كنت أكرهه، يشبه إلى حدٍّ كبير شكل هذا الرجل، أو لربما تأتي من خلف مشاعر الغيرة والحسد التي لا أريد أن أعترف بها.

كان زواجي مثل أكثر زيجات الشباب في هذه الأيام مبنياً على المصالح المتبادلة، فزوجتي تشاركني في مصروف البيت، بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، ما أعطاها شعوراً بالاستقلال الذاتي، ودفعها إلى التمرد في كثير من الأحيان، كنّا نجبر أنفسنا على الاستمرار بالتساكن، من دون كثير من الحب والرومانسية، بعكس ما نشاهده في المسلسلات المصرية على التلفزيون، ونتمنى لو كان باستطاعتنا أن نعيشها، آملين بأن حضور الأولاد في المستقبل سيقوي الروابط بيننا.

جلسنا على الطاولة، وكنا ثمانية أشخاص، المدير صاحب الدعوة، وبجواره زوجته البدينة مرتدية فستاناً فاخراً، ظهرت عليه ماركة غوتشي الشهيرة، محاولةً لفت الأنظار إلى أناقتها، عوضاً عن جمالها، وجلست مقابلهما ابنتهما الوحيدة المدللة وزوجها الذي يعمل معاوناً لأبيها، ثم مدير الشؤون الإدارية في الشركة وزوجته الشقراء اليافعة الجميلة، لقد فهمت من زوجتي مؤخراً، بأن الشقراء أصبحت عشيقة المدير، وأنها ستطلق زوجها لكي يتزوجها.

كنت جالساً أرتشف من شراب الويسكي المتوهّج في أسفل كأسي، برائحته المعتقة التي تذكرني برائحة المسك، منتشياً مستمتعاً بمراقبة هذا المجتمع الاستهلاكي المُتنمّر، والذي يعتقد بأنه سفير الحضارة الأوروبية في بلدنا.

قام المدير ورقص مع زوجته، كما رقصت الشقراء الجميلة مع زوجها، وبقيت أنا جالساً على الطاولة، أتلذذ بشرب قطرات الويسكي وأراقب الجميع. رجعوا إلى الطاولة بعد انتهاء الرقصة، وجدت نفسي مجبوراً لسماع أحاديثهم السخيفة، وحتى مشاركتهم فيها، بعد قليل عاد المدير إلى حلبة الرقص مع الصبية الحسناء زوجة مدير الشؤون الإدارية، وتمعنت النظر في زوجها، فبدا وقد لفّه الغضب، كأنه كلب مسعور تتطاير من عينيه شرار الحقد، لكنه ظلَّ جامداً في مكانه لا يتحرك.

الصالة مزدحمة بالطاولات، لكي تستوعب أكبر عدد ممكن من الأشخاص. كنت أسترق النظر إلى الطاولة المجاورة، حيث جلست سيدة جميلة، جذبت انتباهي، بدأت رقصتها الأولى مع زوجها، وتبعتها بالثانية مع أحد شباب شلتهم، وعادا أدراجهما بعد انتهاء الرقصة وهي مبتسمة. لا شك بأنه كان يمتدح جمالها، بهذا النوع من الكلمات التي تستمتع به كل نساء العالم، وشاهدته وهو يحاول أن يهمس في أذنها، فتمانعت بغنج ودلال، وابتعدت عنه، فما كان من زوجها إلا أن فقد أعصابه وقال: “إنك فعلاً رجل بلا أخلاق”، بصوت عالٍ سمعناه جميعاً، وتابع حديثه: “الحق عليّ لأني عملتك زلمة، وعزمتك على طاولتي”. فقام الشاب ولكمه على وجهه، فتدخل بقية المدعوين الذين معه لتبييض الوجه، وقاموا بمهاجمة الشاب، ورمى أحدهم بزجاجة الشمبانيا على وجهه، فسال الدم من أنفه، وتعرض المسكين للضرب الوحشي بالركل وتحطيم الصحون على رأسه، وبحركة جنونية للدفاع عن نفسه أخرج مسدسه، وأطلق ثلاث طلقات في الهواء بغية إخافة المهاجمين لإبعادهم عنه.

عندما سمع الحضور صوت الطلقات النارية، بدأت النساء بالصراخ، واندفع الناس مذعورين إلى الأبواب محاولين الخروج من الصالة، ساد هرج ومرج، وانقلبت بعض الطاولات والكراسي في أثناء ركض القطيع، لكن خلال بضع دقائق تدفق رجال أمن الفندق، وألقوا القبض على مطلق النار، واسترجعوا النظام، طلبوا من الموجودين أن يعودوا إلى طاولاتهم، وأن يستمتعوا بتتمة السهرة، وقامت الفرقة الموسيقية بعزف أغنية راقصة من جديد، لتخفيف احتقان الجو، وإعطاء الانطباع بأن الأمور كلها أصبحت على ما يرام.

عدنا مثل الآخرين إلى أماكننا، عندما وصلت إلى الطاولة، كان المدير قد سبقنا بالجلوس عليها في مكانه الأصلي بصدر الطاولة، لكن رأسه كان منحنياً إلى الأمام، لما وصلت زوجته إليه صرخت مولولةً، لقد شاهدت سكيناً مغروزة في أسفل رقبته من الخلف، وقد غطت رأسه الدماء، حينئذ أغلقت إدارة الفندق الأبواب، ومنعت جميع النازلين من مغادرة الفندق حتى حضور الشرطة الجنائية.

بعد حوالي نصف ساعة حضرت الشرطة الجنائية، وسألوا الأشخاص الجالسين على الطاولات المجاورة لطاولة القتيل بعض الأسئلة التقليدية، أخذوا أسماءنا، وطلبوا من جميع الجالسين على طاولتنا الحضور غداً في الساعة العاشرة صباحاً إلى قسم التحقيق الجنائي في شارع الحازمية، بعدها قام الطبيب الشرعي بمعاينة الجثة، وبالنهاية تم نقلها إلى المستشفى.

في اليوم التالي وفي الساعة العاشرة تماماً، وصلت أنا وزوجتي إلى قسم الشرطة الجنائية، فوجئت بوجود الأشخاص الخمسة الآخرين، جالسين مطرقين في صالة الانتظار، بعدها جاء موظفان وأخذا بصمات اليد لكل واحد منا على حدة، لمقارنتها بالبصمات الموجودة على مقبض السكين التي قتلت المدير. بعد أكثر من ساعتين، جاء ملازم أول بالشرطة، وطلب من زوجتي والسيدة الشقراء الجميلة الانصراف، لعدم وجود مصلحة لديهما من وفاة المرحوم، وبحسب خبرتي فإن الهدف من إطالة فترة الانتظار هي للتلاعب بأعصاب الشهود، وزيادة الضغط النفسي عليهم.

بدأ التحقيق باستدعاء زوجة المرحوم إلى داخل غرفة المحقق، ليفاجئها بسؤاله عن علاقة زوجها بالسيدة زوجة مدير الشؤون الإدارية، وعن الشائعات التي تؤكد أنه ينوي تطليقها للزواج من عشيقته، أخذت بالبكاء، وأقسمت بابنتها الوحيدة، بأنها على الرغم من أعماله الدنيئة، فهي لم تفكر يوماً بقتله، لأنها ببساطة غير قادرة على القتل. فأحرجها المحقق بسؤاله، كيف تبررين وجود بصمة يدك على مقبض السكين، فزاد بكاؤها، وتوقع منها المحقق أن تنهار تحت هذا الشد العصبي وتعترف، لكنها ظلت مصرة على أنها لم تقتل زوجها. بعدها لم يجد المحقق بداً من الاعتراف بأن البصمات على السكين لا تعود لها، اعتذر منها، وطالبها بمغادرة المبنى من دون التكلم مع أي شخص في صالة الانتظار، بمن فيهم ابنتها وصهرها، وبالفعل رافقها الشرطي إلى خارج المبنى للتأكد من ذلك.

جاء دور ابنته، واتبع المحقق الأسلوب نفسه، بأنها المتهمة الأساسية بقتل أبيها، لأنها الوريث الأول للشركة، وهدفها منع أبيها من الزواج من عشيقته، وأن بصماتها على مقبض السكين أكبر دليل على ذلك، محاولاً أن يضعها تحت أكبر قدر ممكن من التوتر، لكي تفقد السيطرة على أعصابها، لكنها نفت ذلك ولم تنهر، بالنهاية اعتذر منها المحقق لوجود بعض الملابسات في دراسة البصمات، وطلب منها أن تغادر المبنى، من دون أن تُطلعَ أحداً على مجرى التحقيق. ثم استدعى المحقق زوج ابنة القتيل، ووجّه إليه الكلام نفسه، متهماً إياه بأنه المستفيد الأساسي من موت عمه، ليصبح مديراً للشركة، وأخبره بأن بصماته موجودة، كدليل قطعي على مقبض السكينة، ليتراكم الضغط النفسي عليه، فيفقد توازنه، ويقر بارتكابه الجريمة، لكن على الرغم من كل ذلك، لم يعترف، ورفض الاتهامات الموجهة إليه بشدة، فلم يجد المحقق بداً من الاعتذار منه عن الخطأ الذي وقع في تحليل بصمات الأصابع، ثم طلب منه مغادرة المبنى.

بعدها جاء دور مدير الشؤون الإدارية، واتهمه المحقق، بأنه قتل المدير العام دفاعاً عن عرضه وشرفه، وأن هذا الدافع مقبول في محاكمنا بشكل عام، وعده بأنه سيحصل على حكم مخفف لا يزيد على سنة واحدة، إذا أقر بارتكاب الجريمة، ليشجعه على الاعتراف، مؤكداً أن الإثبات موجود لديه، لأن بصماته مطبوعة على مقبض السكين، فأنكر هذه الاتهامات بحدة، فلم يجد المحقق بداً من الاعتذار منه، لأن البصمات الموجودة على السكين لا تعود له، وأن هناك خطأً قد حصل في تحليل البصمات.

أخيراً جاء دوري، فاستدعاني المحقق ودخلت الغرفة. سألني إن كنت على علمٍ بالعلاقة بين زوجتي ومديرها، فأجبته بأنها علاقة عادية، وكأي علاقة بين سكرتيرة مع مديرها، فهناك ظروف تفرضها طبيعة العمل، نظراً لوجودهما المستمر مع بعضهما، طوال وقت ساعات الدوام، فأعاد سؤاله: “لكن هناك شائعات كثيرة منتشرة بين الناس حول علاقتهما”. فأدركت بخبرتي من أسئلته بأنه شخص سطحي، فقلت له: “ربما هناك شائعات حول زوجتك وحول أخواتك البنات، فهل يمكنك أن تصدق هذه الشائعات”؟ فلم يعجبه جوابي، فعدل من جلسته قائلاً: “لكننا وجدنا بصماتك على مقبض السكين المغروزة في رقبة المرحوم”، فأجبته” :إذاً لا داعي للاستمرار في التحقيق، ومن واجبك أن تحيلني الآن فوراً إلى القضاء، فأدرك بأني أستخف بذكائه”. فتابع حديثه: “أريد منك اعترافاً خطياً بأنك قتلته دفاعاً عن شرفك، لأَني متأكد بأنك أنت الذي أقدم على قتله، وبما أنك محامٍ، فأنت تعرف الحالات الشخصية المخففة التي يجوز أن تأخذ بها المحكمة، وفقاً لأحكام القانون”، فحملقت بوجهه، لأتأكد من جدية أقواله.

تابع حديثه: “لكن إذا رفضت الاعتراف، فعندنا الفلقة، وعندما أضعك على الفلقة ستعترف، وحينها لن تستفيد من ميزة الظروف التخفيفية التي يعطيها القانون للقاتل دفاعاً عن شرفه”. نظرت إليه مرة ثانية، وأدركت أنه شخص هشٌّ يمكن التلاعب به بسهولة، لقد صادفت عشرات الأشخاص من أمثاله في أثناء مرافعاتي بالمحاكم. قلت له: “عندما أخرج من الغرفة الآن، سأذهب بوجهي إلى المدعي العام، وأشرح له بأنك تريد أن تنتزع اعترافاً مني بالقوة على أني القاتل، لكي تستطيع أن تتستر على القاتل الحقيقي الذي ارتكب الجريمة، وبذلك تصبح أنت بالقانون شريكاً بالجريمة”.

ظهرت أمارات الخوف على وجهه، وقال مازحاً وهو يحاول تلطيف الجو: “أنتم المحامون غير الله ما بيقدر عليكم، لكنني كنت أقوم بواجبي، وسأعترف لك كرجل لرجل، بأنه لا توجد أي بصمات على مقبض السكين، وكنت اخترعت قصة مطابقة البصمات، لكي أجعل الشاهد ينهار، وليعترف بأنه ارتكب الجريمة”، ثم اعتذر مني، وبينما هو يصافحني، خطر لي أن أقول له بأنني في أثناء هذه الطوشة، وبينما كنت بالقرب من زوجتي عند الباب لمحاولة مساعدتها للخروج من الصالة، التفتُّ إلى الوراء، فشاهدت المدير الإداري، وكان بيده فوطة بيضاء، ألقاها بسرعة على الأرض قبل أن يلتحق بنا، لكني فكرت بأنني لو أدليت بهذه الإفادة، فإن الموضوع سيتعقد، وسوف ينقلون التحقيق إلى مستوى أعلى، وسنضطر للتعامل مع محققين أكثر خبرة وذكاء من صاحبنا الملازم، فغيرت رأيي، وغادرت الغرفة.

لما أصبحت خارج البناء، فوجئت بزوجتي تنتظرني داخل سيارتها، وسألتني بلهفة، وهي مرتبكة: “ماذا قال لك المحقق”؟ فأجبتها: “إنه ولد صغير يستمد قوته من النجمة التي على كتفه، وسينتهي الأمر بإغلاق القضية بعد ثلاثة أشهر، والاكتفاء بالادعاء على مجهول”، فهزت رأسها وبدت مرتاحة، وعلت وجهها ابتسامة عريضة، “من برأيك كان القاتل”؟ فأطرقت برأسي وترويت قليلاً، ثم أجبتها: “تبدو الأمور أحياناً بعكس ما هي عليه”.