“سأخبر الله عنكم” قصة قصيرة

بقلم: أمين الساطي

فتح عينيه بفتور شديد على صوتها الأجش: “قوم يخرب بيتك ما بتشبع نوم، تأخرت على شغلك”. كان الوقت باكراً في صبيحة ذلك اليوم من شهر يناير، والشمس تشرق للتو. شعر بأن أصابع قدميه قد تجمّدت من شدة البرد، فهذه البطانية الصغيرة الخفيفة بالكاد تكفي أن تغطي جسمه النحيل، لكنه مع كل هذا، فهو لا يستطيع أن يجابه زوجة أبيه. قام متثاقلاً من فرشته على الأرض، ونظر إلى أخيه الذي يصغره بأربعة أعوام، فما زال نائماً تحت بطانية واسعة وسميكة، ولم توقظه أمه حتى الآن، من أجل الذهاب إلى مدرسته.
جلس على الطاولة الصغيرة في المطبخ، وسكبت له زوجة أبيه كأساً من الشاي الساخن، وأعطته رغيفين مع قطعة صغيرة من الجبنة، فهذه ستكون وجبته الرئيسية لهذا اليوم. عليه أن يمشي الآن على قدميه لأكثر من ساعة، حتى يصل إلى تحت جسر الكولا في بيروت، حيث يفرد بسطته على الأرض، لينشر بضاعته من علب محارم الورق وعلب الكبريت عليها.

قبل مغادرته البيت، سلمته خالته عشرين علبة من المحارم ودرزينتين من علب الكبريت، وأكدت عليه ألا يعود إلى البيت قبل أن يبيع علب المحارم جميعها، مرددة بأن البيت ليس خاناً، وعليه أن يدفع ثمن إقامته ومصروفه. لكنها نسيت أن تقول هذا الكلام نفسه لابنها. إنه يشعر بكراهية غريبة تجاه هذه المخلوقة، ولقد امتدت هذه الكراهية إلى أبيه الذي أصبح شخصاً آخر، بعد أن توفيت أمه، وتزوج من هذه المرأة الشريرة، وأضحى كل همه إرضاءها، ما دفعه للحقد على أخيه الصغير أيضاً.

لطالما فكّر أن يقوم في أثناء الليل، ويرش مادة الكاز بأرضية البيت، ويشعلها، ويحرقهم جميعاً. هذه الفكرة مازالت تراوده طوال الوقت، ولا يستطيع التخلص منها، تغذيها الغيرة من أخيه، وغريزة الانتقام من أجل تحقيق العدالة، على الرغم من أن لحظات اللذة لهذه التخيلات لا تدوم طويلاً، إلا أنها تساعده على الاستمرار. وصل إلى موقعه تحت جسر الكولا، بسط قطعة صغيرة من القماش على الأرض، وصفَّ عليها علب محارم الورق وعلب الكبريت.

الساعة الآن السابعة صباحاً، وحركة السير ما زالت خفيفة، توقع أن يصل صديقه خالد بعد قليل، ليضع بسطته إلى جانبه، حيث يبيع علب المسكة الأجنبية وأكياس النايلون الصغيرة، لكنه عملياً، يقوم ببيع أكياس النايلون التي في داخلها مادة لاصقة من الغراء، مادة الشعلة، فيقوم بشرائها بعض الأطفال المشردين والعمال المياومين، لاستنشاقها على قارعة الطرقات أو في الحدائق العامة. وعادة ما يطلبون المزيد من رائحتها لتخدير أجسامهم المتعبة، للهروب من هذا الشقاء الذي لا ينتهي.

لقد أعطاه صديقه خالد مرة كيساً صغيراً وجربها وشمَّها، إنها بديلٌ رخيصٌ عن المخدرات، ولكنها أكثر خطورة منها، وتؤدي بالنهاية إلى الإدمان، انتابه بعد شمِّها نوعٌ من النشاط والانتعاش، ولكنه سرعان ما اضمحل بعد وقت قليل، وعاودته الرغبة في شمِّ المزيد منها، لكن ليس لديه ما يكفي من النقود ليعتاد على شراء مادة الشعلة.

كان الجو بارداً، وضع قطعة كرتون كبيرة يحملها عادة مع بضاعته وتربع عليها، منتظراً أن يمرَّ زبونٌ عابرٌ ليشتري من بسطته، قاعداً غارقاً في أحلام اليقظة، سارحاً بتفكيره في الماضي، حول أمه التي تركته، وماتت منذ ست سنوات، محاولاً أن يصيغ هذه الهواجس بشكل خريطة لطريق قد يجمعه معها من جديد، فيخرجه من يومياته المثقلة بالفراغ. إن سوء معاملة زوجة أبيه شجعه على الانفصال عن هذا العالم القاسي المخيف.

لقد مضى الآن أكثر من ساعة ولم يحضر خالد، حاول أن يبعد عن تفكيره بأنه ربما كان مريضاً، أو أن عناصر من القوى الأمنية قد ألقت القبض عليه، لأنه يبيع مادة الشعلة، بعد قليل جاء سعيد، وهو ولد آخر يبيع الدخان على بسطة تحت الجسر أيضاً، فرش قطعة الكرتون على بعد عدة أمتار منه. ووضع عليها ثلاثة أنواع من علب الدخان المفتوحة، لأنه يبيع بالسيجارة الواحدة، وصفَّ إلى جانبها علب الكبريت، إنه لا يميل إلى هذا الشخص، ولعل تلك الكراهية تعود إلى علب الكبريت، التي خلقت بينهما عداوة كار.

الوقت يمضي بتمهّل، ربما بسبب شعوره بالملل. حتى الآن لم يبع ولا علبة محارم واحدة، بينما رأى أن سعيد قد مرَّ عليه أكثر من ستة أو سبعة زبائن، إنه يفكر أحياناً أن يترك بيع علب محارم الورق، وأن يبيع السجائر، فأرباحها مضمونة، وزبائنها كثيرون. الوقت يمر ببطء أكثر من المعتاد، ولعل البرد القارس لا يشجع العالم على التسكع في الشوارع. السماء ملبدة بالغيوم الكثيفة والفضاء قاتمٌ، ينذر بموجة أخرى من الأمطار، إنه يكره الأمطار، لأنها تقلل من فرصه في بيع علب المحارم، كما أنها تدخل الكآبة إلى نفسه.

حاول أن يقنع نفسه بأن الوقت مازال مبكراً، وبعد قليل ستمتلئ الساحة تحت الجسر بالمارة، وسيبيع عدداً من علب المحارم. راقب بطرف عينه بسطة الدخان، فوجد أنها خالية الآن من الزبائن أيضاً، مرَّ بخاطره أن اليوم هو الأربعاء، وهو منحوس لأن أمه ماتت في هذا اليوم، سأل الصبي الجالس خلف بسطة الدخان فيما لو أنهما ينقلان بسطتهما إلى فوق الجسر، ويبيعان بضاعتهما على الرصيف، فعدد المارة هناك أكثر من هنا، لكن رفيقه أجابه بأنه ربما قد تمرّ على الجسر دورية للشرطة، فنضطر لترك البسطة للهروب منهم، فيستولي رجال الدورية على البضاعة، ويتقاسمونها فيما بينهم، فقررا البقاء في مكانهما المنعزل تحت جسر الكولا.

الآن قد مضى عليه أكثر من خمس ساعات، ولم يستفتح بليرة لبنانية واحدة، فأخذ يقنع نفسه من جديد بأن الطقس بدأ يتحسن، وبعد قليل سيزداد عدد المارة، وسيبيعهم علب محارم الورق، لكن الغيوم الرمادية الداكنة اللعينة مازالت تحجب الشمس، كانت قليلة عند الفجر، ولكنها آخذة في التكاثر مع مرور الوقت، ما دفعه إلى التشاؤم من جديد. أحسَّ بأن درجات الحرارة آخذة بالانخفاض، وبدأ يشعر ببعض الصعوبات في تحريك أصابع قدميه. إنه يدرك أن بيع علب المحارم خارج عن سيطرته، وأن كل ما عليه هو الانتظار، فهذه المواقف الرتيبة تبطئ الوقت. بدأ يفكر جدياً بماذا سيقول لزوجة أبيه عندما يعود مساءً إلى البيت، وتمنَّى في هذه اللحظة لو أن أمه كانت موجودة لتستقبله عندما يفتح باب البيت.

لقد دخل وقت العصر، ولم يعد هناك أمل في أن يحضر خالد لمساعدته، وعليه أن يتدبر أمره بنفسه، لو كان خالد موجوداً لاشترى منه خمس أو ست علب من أجل مساعدته، وعندما تكون أحوال خالد جيدة فإنه يعطيه ألفي ليرة لبنانية لشراء ساندويشة فلافل في أثناء عودته إلى بيته. قطع تفكيره مشاهدة الصبي بائع بسطة الدخان، يلوّح له بيده مودعاً، لقد رصد بعينيه أن مبيعات السجائر لم تكن جيدة في هذا اليوم، لكن على الرغم من هذا، فإن صاحب البسطة عاد إلى منزله، لاشك أن أمه موجودة في البيت لتدافع عنه أمام أبيه.

الوقت يمضي، بدأت العتمة تخيّم على المكان، وتمددت الظلال تدريجياً تحت الجسر، لا أحد يجوب المكان، لقد أصبح من الخطر عليه أن يبقى وحيداً تحت الجسر، وقد يخطر لأي رجل كبير أن يهجم عليه ويأخذ بضاعته. لم يبع حتى الآن ولا علبة واحدة، ولم يعد باستطاعته أن يعود إلى بيته. حاول أن يقف، لكن قدمه اليسرى لم تتحمل وزنه، فلقد كانت متجمدة من شدة البرد، خلع حذاءه، وحاول أن يدلك أصابع قدمه، لكنها مازالت متجمدة كالثلج، فشعر بالخوف، وبطريقة لا شعورية أخذ عود ثقاب من علبة الكبريت، وأشعل علبة محارم، ثم قرَّب قدمه منها، احترقت العلبة بكاملها بسرعة، ناشرة كمية صغيرة من الحرارة، فشعر ببعض الارتياح، لكن أصابع قدمه مازالت متجمدة، فأشعل علبة ثانية من محارم الورق، فساهمت الحرارة المنبعثة منها بتدفئة قدمه، فتمكن من تحريك أصابعه بصعوبة.

لقد آن الأوان لمغادرة الموقع، فجمع بضاعته ولفَّها بقطعة القماش، وحمل قطعة الكرتون تحت إبطه، واتجه إلى فوق الجسر. وضع بسطته على الرصيف فوق الجسر، وأخذ يراقب بحذر دوريات الشرطة، مازالت درجة الحرارة تنخفض مع قدوم الظلام، أحسَّ بالبرد يدخل إلى أعماقه فينخر عظامه، لكنه يعرف أنه من المستحيل أن يعود إلى البيت قبل أن يبيع على الأقل عشر علب من المحارم، للهروب من هذا البرد القارس. عاد لممارسة أحلام اليقظة، فتخيَّل أن أمه تجلس متربعةً إلى جانبه على الرصيف، وأصابع يدها تداعب خصلة شعره المتهدّلة على جبينه، فشعر بنوع من السعادة، وأحسَّ بالدفء ينساب في جسمه، إنه لن يدعها تتركه هذه المرة، وتذهب وحدها، لقد قرر أن يرافقها لكيلا يبقى وحيداً، لم تعد لديه القدرة على تحمّل الحياة.

قطع أحلامه فجأةً صوتُ أحد الشرطيين اللذين أصبحا أمامه: “ما بتعرف أن التبسيط بالشوارع ممنوع، تعال معنا إلى المخفر، والبضاعة مصادرة”. كان هدفهما تخويفه، لكي يركض هارباً، فيصادرا البضاعة، ليتقاسموها بينهما، لكنه لم يتحرك من مكانه، إن هذه العلب السخيفة أصبحت تمثل له الفرق بين الحياة والموت. قام من مكانه، وحاول أن يضع البضاعة داخل قطعة القماش، لينسحب من على الرصيف بهدوء، لكن الشرطي قبض على يده، ومنعه من ذلك، فما كان منه إلا أن دفع يد الشرطي برفق، وحاول إكمال عمله.

هنا صاح الشرطي: “كمان عمْ تعتدي على رجال الشرطة”، ولطمه بكفه على وجهه، وعلى الرغم من كل هذا الإحباط الذي يعيش فيه، قرر ألا يسمح للشرطي بأن يدوس على كرامته. لم يبقَ هناك شيء ليخسره، فلكم الشرطي بكل قوته على وجهه، باغتت اللكمة الشرطي، فانحنى إلى الوراء، وتعثرت قدماه، فوقع على الأرض، فما كان من شريكه الشرطي الآخر، إلا أن هجم على الولد الصغير كالمجنون صارخاً: “كمان عمْ تضرب رجال الأمن”.

وبدأ يضربه ويرفسه برجليه، لم يستطع أحدٌ من المارة التدخل في هذه المعركة غير المتكافئة، وتمالك الشرطي الملقى على الأرض نفسه، ومن شدة شعوره بالإحراج أمام الناس المحيطين به، قام من مكانه، يملؤه الحقد، وقبضة يده اليمنى مشدودة مصراً على إيذائه، وبحركة سريعة سدّد لكمةً قويةً إلى وجه الصبي، فاختلَّ توازنه، وسقط من فوق جسر الكولا. خلال فترة سقوطه من هذا الارتفاع الذي لا يزيد على ثمانية أمتار، شعر بسعادة كبيرة وهو يودع هذا العالم، الذي لم يعرف فيه إلا التعاسة، وهو الآن ذاهبٌ في طريقه لملاقاة أمه، وسيخبر الله عنهم.