الفوضى الآن – قصة قصيرة

‎جريدة الأسبوع الأدبي الرقم ١٧٩٣ الصادرة عن إتحاد الكتّاب العرب

عدنان واحدٌ من مئات ملايين الأشخاص الذين يعيشون على الحبوب المهدئة للأعصاب. وصف له الطبيب مرة، بأن يتناول حبة واحدة مساءً قبل النوم للتخلص من القلق الناتج عن عدم شعوره بالأمان، بعد أن شاهد بعينيه كيف أن العملة الورقية تنخفض قيمتها في كل يوم، وأن البنوك في لبنان أصبحت معرضة للإفلاس، ومدخراته في بنك بيروت والتي هي بحوالي أحد عشر ألف دولار، قد أصبحت في خبر كان، إضافة إلى انتشار الفيروسات الحديثة مثل الكورونا، التي تبث الرعب في كل مكان، ما دفعه لزيادتها من تلقاء نفسه من حبة إلى حبتين يومياً، من دون مراجعة الطبيب. لكن بعد عدة أسابيع، ما لبث أن وجد نفسه مرغماً لزيادتها إلى أربع حبات يومياً، للاستمرار بالحصول على السعادة والراحة النفسية ذاتها. معللاً ذلك، بأن الدكتور غير اختصاصي، وهو لا يعرف عدد الحبوب اللازمة لمعالجته من الاكتئاب المستمر.

‎لقد أصبح على غير ما هو عليه، فهناك شعور داخلي دائم بالنشوة، وهو يعيش معلقاً بين الواقع والماضي، وبين خيالات أبطال المسلسلات التلفزيونية التي يدمن على مشاهدتها باستمرار. نسي حينها مشكلة الخوف نهائياً، كان قد قرأ بالمصادفة في إحدى المجلات، عن تجربة أجراها الجيش الأميركي على سترة بيضاء يلبسها الجنود، فيصبحون غير مرئيين، إذ إن مبدأها يقوم على وجود كاميرا مثبتة بجانب السترة، تلتقط الصورة الموجودة خلفها، وتعكسها على وجهها، فتصبح السترة متماهية مع محيطها، وغير مرئيّة للعدو.

‎ بقيت الفكرة عالقة بذهنه، من دون أن يستوعب تفاصيلها الفنية، واعتقد أنها امتداد بطريقة ما لطاقية الإخفاء التي كان يسمع عنها وهو صغير. استدلَّ من أحد مواقع الإنترنت على اسم معالج روحاني مضمون نيجيري الجنسية، لكتابة التعاويذ السحرية والاتصال بالجن في العالم السفلي، فذهب عدنان لزيارته في حي المصيطبة ببيروت، فأقنعه المعالج النيجيري بأن عليه أن يعطيه على الحساب ستين دولاراً، ليشتري بها “تيساً” يقدمه قرباناً لآلهة الشياطين، لأن الشياطين تحب دماء الحيوانات الحية، ما سيساعده في استخدام سحر الفودو لتحقيق رغبته، ثم طلب منه أن يعود بعد ثلاثة أيام ومعه ثلاثمئة دولار، ليعطيه خاتم فضة بحجر العقيق اليماني الأسود، يلبسه في سبابته اليمنى، وهو خاتم التأثير والسلطة ودفع الشرور، فيصبح غير مرئي.

‎فعلاً عاد بعد ثلاثة أيام، وبوساطة الإيحاء أقنعه الساحر النيجيري أنه أصبح بمقدوره إخفاء شكله باستدعاء القوى الشيطانية الموجودة حوله في الكون وجذبها إلى داخله، فدخل في عالم الوهم. لقد أمسى واقعه من صنع تخيلاته، إن لَبْس الخاتم بحدِّ ذاته غير كافٍ ليجعله غير مرئي، بل إن عليه أن يسمح لهذه القوى الشيطانية بأن تتلبسه، لكي يتحقق اختفاؤه عن عيون البشر.

‎ لَبْس عدنان الخاتم، فتوهم بوجود طاقة عارمة في داخله، واتجه ماشياً إلى بنك بيروت، دخل باب البنك الرئيسي، واتجه مباشرة إلى باب الموظفين الإداريين، وهنا استوقفه حارس الأمن الذي يضع على خصره مسدساً وسأله: “لوين رايح يا أخ، ممنوع الدخول إلى قسم الصرافين”؟ بتلك اللحظة اكتشف بأنه إنسان عادي مرئي للجميع، وأدرك أن الساحر قد لعب عليه، فارتبك من هذا الموقف، وتجمد في مكانه، فما كان من رجل الأمن إلا أن دفعه بعنف إلى الخلف، وبطريقة لا شعورية مدَّ عدنان يده، وانتزع مسدس الطاحونة الماجنوم، من على خصر الحارس، وصوّبه باتجاهه لإخافته، إلا أن الحارس حاول أن يدافع عن كرامته أمام الناس، فجرب انتزاع المسدس من يده، فانطلقت رصاصة أصابت الحارس بكتفه، هنا بدأ صراخ بعض الزبائن الموجودين في البنك، والذين جاؤوا لسحب الحد الأدنى المسموح لهم به من ودائعهم، حاولوا خلق الفوضى، لعلهم يتمكنون من مهاجمة الصرافين الموجودين بالبنك، للحصول على ودائعهم المالية المجمدة. هرع حارس أمن ثانٍ، وأطلق طلقتين من مسدسه باتجاه عدنان، لكنه لم يصبه، وأصابت إحدى الطلقات يد أحد الزبائن في البنك، فانفجرت الحلقة المفرغة من الكراهية والحقد بين المصارف والعملاء، ونظر الموجودون إلى المقتحم كبطل يحاول استرداد حقوقه المسلوبة، فهاجموا الحارس مطلق النار، وضربوه ضرباً مبرحاً.

‎ شجع انفجار العنف بقية الموجودين على التفكير باستعادة ودائعهم، هاج الزبائن على صوت إطلاق النار، وثارت غريزة القطيع الكامنة في داخلهم، فاندفعوا من باب قسم الصرافين، لانتزاع ودائعهم بالقوة. فتحوا الدروج وبدؤوا بإخراج الدولارات. حصل البادئون بالهجوم على آلاف الدولارات المكدسة في الدروج، بينما لم يحصل المتأخرون على أي مبلغ، فبدأ العراك بين الزبائن أنفسهم للحصول على أكبر حصة من الدولارات، أما عدنان فأشهر مسدسه وانطلق إلى الطابق الثاني، حيث مكتب مدير البنك. حاول الحارس الشخصي للمدير الواقف أمام باب مكتبه منعه من الدخول، فأطلق عليه النار من دون تردد، ودخل عنوة إلى غرفة المدير.

‎ عندما شاهد مدير البنك عدنان أمامه مشهراً مسدسه، ونتيجة لهذا التهديد الذي لا يمكنه السيطرة عليه، شعر بالتوتر والخوف من الموت، فاقترح عليه أن يعطيه كامل المبلغ الموجود في خزنته الحديدية بالمكتب، وهي بحدود مئتي ألف دولار ليتركه وشأنه، فوافق عدنان على الفور، أخذ المبلغ ووضعه في كيس، ونزل إلى الطابق الأول راكضاً باتجاه الباب الخارجي للبنك، ففوجئ بأن الباب الخارجي أصبح مغلقاً، حيث إنه تم إغلاق جميع الأبواب الخارجية أوتوماتيكياً، بعد أن رِنّ جرس الإنذار عند بدء إطلاق النار. كما أن صوت جرس الإنذار نبه الشرطة إلى أن عملية سرقة تجري داخل البنك.

‎ خلال دقائق كانت مفرزة من الشرطة قد أحاطت بفرع البنك، ومنعت الناس من الاقتراب منه، بعد قليل ناشد ملازم أول بالشرطة بوساطة مكبر للصوت الشخص الذي أطلق النار، لكي يسلم نفسه، ووعده بأن الحكومة ستنظر بعين العطف إلى مشكلته. ثارت الزبائن المحملة بالدولارات داخل البنك، وأيقنت أن الشرطة ستسلب منهم حقوقهم، أما عدنان فأصبح في وضع صعب، لأنه أطلق النار على حارسين للأمن. خلال هذا الوقت تجمع الآلاف من الناس في الخارج حول البنك، وضربوا حلقة حول رجال الشرطة المحاصرين للبنك، وأخذوا يصرخون مطالبين بالحصول على أموالهم المودعة، والتي يرفض البنك إعادتها إليهم، ويهتفون ممجدين البطل الذي أطلق النار في داخل البنك. سلوك القطيع دفع المتجمعين خارج البنك للوحدة والتماسك ضد القانون، لاستشعارهم بالخطر على مصادرة ودائعهم من البنوك والسياسيين المتواطئين معهم. خلقت الفوضى نوعاً من البلبلة والتحريض ضد البنك، وأصبح الناس يهتفون: “عدونا يوجد هنا”، ورددت الحشود شعارات ضد الحكومة، أما رجال الشرطة فقد بقوا على الحياد، ولم يحركوا ساكناً.

‎ عاد عدنان وصعد إلى الطابق الثاني، ودخل غرفة مدير البنك، وفتح نافذته، وألقى منها مبلغ المئتي ألف دولار على الحشود الغاضبة التي تحاصر البنك، لقد استيقظ من الحلم الذي يعيش به، وأدرك أنه قد تسبب في مقتل شخصين بريئين يقومان بوظيفتهما، فشعر بتأنيب ضميره، ونتيجةً لهذا الإحباط الدائم، أخذ المسدس وأطلق رصاصة في رأسه، بدأت أوراق المئة دولار تتطاير في الهواء، فهجمت الحشود الغاضبة، وبدأت تتقاتل مع بعضها من أجل تلقف الورقات المالية، وضاع رجال الشرطة بين المتظاهرين، وفي خضم هذه الفوضى، اندفع الزبائن داخل البنك إلى الباب الخارجي، وتمكنوا من خلعه، وخرجوا راكضين مثل قطيع الثيران، ليذوبوا بين الحشود التي كانت تحاصر المكان.