الزلزال – امين الساطي

في هذا الصباح، ضربت بيروت هزة أرضية خفيفة، فتداعت إلى رأس هشام، وهو جالس وحده في بلكونة شقته المطلة على البحر، يتناول كعادته فنجان قهوته التركية، الكثير من الأفكار والهواجس التي كان قد قرأها بالماضي عن وقوع لبنان وسورية على خطّ زلزالي نشيط، يبدأ من جبال طوروس في تركيا، ماراً بالغاب السوري، ثم سهل البقاع، حتى غور الأردن، منتهياً بالبحر الأحمر.
ولطالما تعرضت بيروت بالماضي إلى زلازل مدمرة، كان آخرها قبل حوالي سبعمئة سنة، حين تم مسحها من على وجهه الأرض، حدث حينها زلزال رهيب، تراجع وقتها البحر إلى الوراء لمسافة تزيد على كيلومتر واحد، ثم ارتدّ من جديد بشكل موجة عالية، غمرت المدينة كلها فأغرقتها، وهدمت أبنيتها، وقتلت أغلبية من فيها، ولم ينجُ إلا عدد قليل من سكانها الموجودين وقتها في الهضاب العالية المحيطة ببيروت، فارتحلت أغلبيتهم بعد هذا المنظر المخيف إلى القرى المتناثرة بالجبال.
حاول هشام أن يخفف من مخاوفه، ويغمض عينيه لينام في تلك الليلة، لكن الأفكار ظلت تهاجمه، لقد انتهت حياته العاطفية بشكل عملي قبل أن تبدأ، على الرغم من أنه مازال في بداية الثلاثينيات من عمره، إنه يسكن في شقة صغيرة مستأجرة في حي المصيطبة، وما زال يعمل منذ تخرجه في الجامعة لدى أمانة السجل العقاري لمدينة بيروت براتبٍ يكاد لا يكفيه.
تسابقت الذكريات إلى رأسه، وتذكر بنت الجيران سلمى التي كانت حبه الأول، وتصور اللحظات التي كان يسرقها من الزمن ليمضيها برفقتها بعيداً عن عيون سكان قريتهم، ومازال يشعر حتى الآن بطعم قبلتها الأولى التي تغلغلت إلى أعماق وجدانه، والتي لن ينساها أبداً. كان أمله في تلك الأيام أن يتخرج في الجامعة، وأن يحصل على وظيفة من أجل أن يتزوجها، ثم تذكّر كيف أن أهلها زوجوها إلى رجل غني يكبرها بأكثر من عشرين عاماً، وما زالت تعيش معه حتى الآن في حي عين المريسة الراقي المطل على البحر في بيروت، لا شك أنها وافقت على هذه الزيجة، وتخلت عنه من أجل أن تعيش حياة مترفة في بيروت، إن زواجها جعله يفقد شهيته للحياة، وأصبح كل مستقبله الذي كان يتطلع إليه خلفه، لا شيء في حياته على ما يرام، يعيش الإحباط الدائم، لأنه فقد سلمى، ويبدو أن تشاؤمه قد صدق بالنهاية، وأن القادم سيكون أسوأ له وللجميع.
في الصباح وبينما هو يقوم بوضع الأشياء الضرورية في حقيبته الخفيفة، تناول مسدسه الصغير ماركة سميث، ووضعه تحت قميصه، وجد نفسه عاجزاً عن مقاومة فكرة الاتصال بسلمى على الهاتف من جديد، ليطمئن عليها، مقترحاً عليها مغادرة بيروت إلى قريتها كفريا، لأن المعلومات المتوافرة بالتلفزيونات تشير إلى أن هزات أرضية قوية ستضرب العالم بالأيام القادمة. تردد كثيراً في بادئ الأمر، لأنه كلما كان يتصل معها بالهاتف، كانت تجد ألف سبب لإنهاء مكالمتهما الهاتفية بسرعة.
لقد تجرأ مرة بعد أن سمع في قريته بعض الشائعات، بأنها غير سعيدة بحياتها الزوجية، وأنها لم تنجب أولاداً، فتسرع وعرض عليها بأن تطلب الطلاق من زوجها، لكي يتزوجها، لكنها رفضت هذه الفكرة بدلال، وماطلت بالإجابة عليه بشكل واضح، إنه يعرف أنها تفكر بأن تحتفظ به كلاعب احتياطي، فيما لو تطلقت من زوجها الحالي، ولكن على الرغم من أنانيتها، فإنه مازال يحبها ويريدها، وهو دائماً على استعداد لأن يجد لها الأعذار لتسويغ جميع تصرفاتها.
في أثناء ذلك، سمع صوتاً مخيفاً، استمر لبضع ثوانٍ، وشعر بالبناء يهتز، وتصور بأن السقف سينهار على رأسه، ما جعله في حالة من الذعر الشديد، حتى إنه وجد صعوبة في حفظ توازنه وهو واقف في وسط الغرفة، وسمع صوتاً مثل الانفجار عندما سقطت الثريا المعلقة بالسقف، ووقعت المكتبة الجدارية على الأرض، إنها الهزة الرابعة التي تضرب بيروت خلال هذا اليوم، انقطعت الكهرباء، ولكن الجوال مازال يعمل، أخذ حقيبته الصغيرة، واستلم الدرج هابطاً بسرعة من دون تفكير، وكل همه أن يغادر بيروت بسرعة خوفاً من ارتدادات الزلزال، كانت الشوارع تغص بالناس الذين تركوا بيوتهم لحظة شعورهم بهزات الزلزال، وهم يهرعون تحت تأثير هذه الصدمة إلى الأماكن المفتوحة، الطرقات مشحونة بالناس والصياح والغبار الناتج عن تساقط عتبات النوافذ والأحجار الملبسة على واجهات المباني.
بدأت تشهد الشوارع تزاحماً كبيراً بالناس، يزداد سوءاً مع مرور الوقت بازدياد عدد السيارات التي تغادر مدينة بيروت متجهة إلى القرى الجبلية. عندما أصبح بالشارع شعر بارتياح لوجوده بين هذا العدد الكبير من الأشخاص، ولمعت في رأسه فكرة واحدة، فأخذ هاتفه الجوال، واتصل بسلمى على الفور، فهي الآن تعيش مع زوجها في عين المريسة، إنها المرأة الوحيدة التي يهمه نجاتها في هذه المدينة، وما هي إلا دقيقة حتى سمع صوتها وهي ترتعد من الخوف، عرض عليها أن يحضر إلى منزلها، ليأخذها معه إلى قريتهما، قبل أن يضرب التسونامي بيروت ويغرقها، فأجابته بصوت متهدج بأن زوجها موجود بالبيت، ولا تستطيع أن تتركه لتذهب معه إلى قريتهما، وأغلقت السماعة. خطر له أن يتصل بها من جديد، ليفهمها خطورة الوضع، ولكنه تمالك نفسه، لكي يحافظ على البقية الباقية من عزة نفسه، فعليه الآن أن يفكر بإنقاذ نفسه.
أخذ طريقه متجهاً إلى الأوتستراد للوصول إلى قرية بكفيا، وبعد أن مشى حوالي نصف ساعة، سمع رنين جواله، كانت سلمى على الخط من جديد، لقد غيرت رأيها، وطلبت منه أن يحضر إلى منزلها، ليأخذها معه إلى كفريا، أعطته هذه الكلمات شعوراً بقدرته على قهر جميع الظروف الذي سوف تعترضه وهو في طريقه إليها، انبعث الأمل في نفسه للانفتاح على الحياة، بدلاً من حياة الخوف والعزلة التي يعيشها وحده في بيته.
استدار وعاد راجعاً باتجاه منزل سلمى، كان يمشي مسرعاً بين الكتل البشرية والسيارات المزدحمة التي تسد الطرقات. بعد أكثر من ساعة وصل إلى بيتها، ليجدها واقفة بمفردها أمام باب البناء، تحمل حقيبة يد صغيرة، وترتدي بنطال جينز أزرق وبلوزة صوفية بيضاء خفيفة، أظهرت الحروف المطبوعة عليها علامات ماركاتها العالمية المشهورة، إنها حتى في هذه الظروف لا تستطيع التخلي عن عادتها في حب الظهور والمحافظة على أناقتها وجمالها.
مازالت كما يتذكرها مزيجاً من السحر والأناقة والغموض، سألها عن زوجها، فأجابته بأنه رفض أن يغادر المنزل، ولذلك قررت أن تذهب بمفردها معه إلى قريتهما كفريا، اقترحت عليه أن يقود سيارتها المرسيدس باتجاه القرية، وانطلقا بالسيارة باتجاه طريق الجديدة، ولكن وجود هذه الحشود البشرية والقطع المتساقطة من الأبنية على الطرقات، زادت من صعوبة تقدم السيارة، وأخذ التزاحم يزداد مع الوقت، ويشلّ حركة سير السيارات المتجهة إلى خارج بيروت.
استلم طريق الجديدة، وما كاد يقترب من الجسر الموجود على أوتوستراد المتن، حتى توقف السير نهائياً، نتيجة للأضرار التي لحقت بالجسر من الزلزال. لم يعد أمامهما إلا أن يتركا السيارة بمنتصف الطريق، ويتابعا سيرهما مشياً ليجتازا هذه المنطقة، لكي يصلا إلى بكفيا.
كانت الناس تمشي بالشوارع متراصة كالقطيع، وكأنها لا تصدق ما يجري حولها، لكن وجود سلمى بهذه الملابس الأنيقة، وخصوصاً حقيبة يدها الفاخرة، قد تتسبب في لفت الأنظار إليها، فشعرت بأن عليها أن تتخلص من حقيبة يدها بسرعة، فتوقفت في إحدى الزوايا، وأخرجت كيساً بلاستيكياً صغيراً من حقيبتها، ودسته في صدرها، كما أخرجت من الحقيبة رزمة ملفوفة من أوراق المئة دولار، وقسمتها إلى قسمين، وضعت إحداهما في جيبة بنطالها، وأعطت القسم الثاني إلى هشام، ثم تابعا سيرهما بين الحشود، تصور هشام من هذه الحركة بأنها مازالت تثق به، وأنها ما برحت تكن له المودة القديمة، فاقترب منها، ووضع يده حول خصرها، ليطوقها وليشعرها بالأمان، إنها الفرصة الوحيدة التي كان يحلم بها في كل حياته، قد تحققت الآن، حاولت بلطف أن تدفع يده عنها، لكنه لم يتجاوب معها، فهمت أنها ليس باستطاعتها أن تضع أي مسافة بينهما، وهما في هذه الظروف، فأسرعت لتندمج بالحشود التي تسير على الطرقات، إنها الطريقة الوحيدة التي تمكنها من أن تتحرر من اللمس.
في هذه الحشود الكثيفة، يمكنها أن تتحرر من الخوف ومن اللمس، حيث يضغط الجسد على الجسد، بحيث لا تستطيع أن تميز بين هشام والأشخاص الآخرين، الجميع يتدفقون تحت عامل الذعر كالقطيع المرعوب، ولم يعد هناك مجال للتفكير بالجنس، وكلما تدافع الناس بغريزة القطيع وتراصوا قلَّ خوفهم من بعضهم بعضاً، في هذه اللحظات لم تعد لمسات هشام لجسدها تعني أي شيء بالنسبة إليها.
بعد فترة توقف جهاز الجوال عن العمل، فلابد من أن تأثيرات الهزات الأرضية قد طالت محطات بث الهاتف المحمول، فاستغل هشام هذه المناسبة، وسألها عن زوجها، فذكرت له أنه فضَّل أن يبقى لحماية البيت، لأنه يؤمن بأنه عندما تعمّ الفوضى، فإن الناس ستهاجم البيوت وتنهبها، وتابعت حديثها ضاحكة: لا تخف عليه، إنه بسبع أرواح.
بعد خمس ساعات من المشي وصلا قرية بكفيا، لقد ظهر الإجهاد على سلمى، لأنها لم تتعود المشي لمسافات طويلة، على الرغم من أنها تمارس الرياضة يومياً للمحافظة على وزنها ورشاقتها، بالنهاية وجدا فندقاً صغيراً ذهبا إليه مباشرةً.
طلب هشام من موظف الاستقبال غرفة واحدة ليمضيا فيها هذه الليلة، قبل أن يتابعا طريقهما إلى كفريا، لكن الموظف أجابه بأن جميع الغرف محجوزة بالفندق، فما كان من هشام إلا أن أخرج من جيبه عشر أوراق ذات المئة دولار، وأعطاه إياها لتأمين هذه الغرفة، إنه عرض لا يمكن أن يرفضه، فأعطاه الموظف مباشرة مفاتيح غرفة في الطابق الثاني، وتصور هشام أنه سيشبع غريزته وسينام معها في غرفة واحدة.
إن فكرة زواجه بها التي شغلت عقله باستمرار خلقت بالواقع شيئاً مطابقاً لتفكيره، إن رغبته العنيفة بالزواج من سلمى جذبت إلى حياته الموقف الذي كان يرغب فيه بشدة، لكنها رفضت بإصرار القبول بغرفة واحدة، وطلبت من الموظف تأمين غرفة ثانية لها، وأفهمته بأنها على استعداد لأن تدفع له المبلغ الذي يريده، وتحت هذا الإغراء وافق الموظف على أن يعطيها الغرفة المخصصة له بالفندق، لتنام فيها وحدها لهذه الليلة.
لم يكن باستطاعة هشام أن ينام في تلك الليلة، وتمدد بالسرير تتنازعه الأفكار، إنها مازالت كعادتها تتلاعب به، ولعلها تخطط لأن تتخلى عنه حالما تصل سالمة إلى كفريا، إنها امرأة أنانية، رفضت أن ينام معها، لكي يعيشا حبهما الأول، لكي يمتزجا معاً، وليتعاهدا على الزواج من جديد.
خطر له بأن مشاعرها نحوه ربما قد ماتت، فالحب مثل الأشخاص ينمو ويكبر ليدخل مرحلة الشيخوخة ثم يموت، أو لعلها تفكر بالزواج من رجل ميسور، قد تعرفت عليه مؤخراً في مجتمعها الراقي في بيروت.
في أثناء ذلك ضربت هزة ارتدادية متوسطة القوة مبنى الفندق، وشعر بالجدران تهتز، وأن السرير يتحرك من تحته، فكَّر في تلك اللحظة بأن يترك غرفته، وينزل إلى الشارع، ولكن الهزة الأرضية استمرت لفترة قصيرة ثم توقفت، بعد ذلك غمرته الطمأنينة، وما كاد يخلد إلى النوم، حتى هزَّ زلزال قوي مبنى الفندق من جديد، فشعر بتمايل البناء، وتوقع أن يسقط السقف على رأسه، وسمع أصوات نزلاء الفندق وهم ينزلون الدرج بسرعة مستعجلين الخروج من داخل المبنى قبل أن تبدأ الأرض بالاهتزاز مرة ثانية، لكن الهزة الأرضية استمرت لنحو عشر ثوانٍ ثم توقفت، لم يكن بين الهزة الارتدادية الأولى والهزة الارتدادية الثانية التي أصابت الفندق أكثر من أربع ساعات.
إن كثرة الزلازل في هذا اليوم قد تكون دليلاً على أن العالم قد دخل في مراحله الأخيرة، ومن الممكن أن تكون نهايته قد اقتربت، إن كل ما يتمناه الآن أن يصل إلى قريته ليموت مع أهله. أحس بعد أن راودته هذه الأفكار، بقوته الذاتية التي حررته من عقدة الخوف من الموت، ولم يعد يكترث بكل هذه الزلازل، فلم يبق لديه ما يخسره في هذه الحياة.
ارتدى ملابسه بهدوء، ونزل إلى صالة الفندق، ليجد سلمى جالسة وحدها بالزاوية، وقد اعتراها الخوف، وزاد من مصيبتها حالة الذعر التي تعم المكان، نظر إليها هشام ببرود، وسألها فيما إذا كانت جاهزة لمغادرة الفندق إلى كفريا، فأجابته: بأنها اتفقت مع موظف الاستقبال على أن يؤمن لهما سيارة لتقلهما إلى قريتهما في هذا الصباح مقابل سبعمئة دولار.
تأكد أن كل همها قد أصبح محصوراً في أن تمنعه من أن ينفرد بها خلال الطريق إلى كفريا، طلب فنجاناً من القهوة التركية، وأشعل سيجارته، وأخذ يفكر، وهما ينتظران قدوم السيارة، في الطريقة التي ستمكنه من الانفراد بها، لتنهار المسافات والجدران التي حاولت أن تخلقها بينهما، وعندئذٍ لن تستطيع أن تمنعه من أن يشفي جرح كبريائه، إنها حبه الأول، ومن حقه أن يمتلكها ويتزوجها.
بعد قليل وحسب الموعد وصلت السيارة، وفيها السائق وإلى جانبه فلاح يبدو أنه من سكان المنطقة، جلس هشام معها بالمقعد الخلفي، وشاهدها وهي تحشر نفسها بالزاوية لتلتصق بنافذة السيارة، تاركة أكبر مسافة ممكنة بينهما، لتقطع عليه التفكير بأن يمد يده ليلمسها، إنها لا تريد أن تجدد علاقتها معه، لأنها تعرف كيف ستنتهي.
لقد تركته بالمرة الأولى لأن أحواله المادية لم تكن على ما يرام، وهو ما زال على حاله موظفاً صغيراً محدود الدخل، سأل نفسه: كيف يمكن أن ينتهي الحب العنيف الذي كان يجمعهما بهذه الطريقة؟ انطلقت السيارة بحذر في الطريق الجبلي الصاعد على طرف سفوح الجبال، نظراً لوجود بعض الصخور الصغيرة التي تناثرت على سطح الطريق، قادمة من أعالي المنحدرات بفعل الزلزال، ظهرت بعض التشققات في الطريق الإسفلتي الممتد أمامهم، وكلما أوغلوا في الطريق ازدادت شدة الانحدارات المطلة على الطريق، وبعد أن قطعوا حوالي عشرين كيلومتراً، شاهدوا انهيارات أرضية خفيفة، ولاحظوا بعض الصخور المنفردة الكبيرة الساقطة على الطريق، وبعض الأتربة المتراكمة على أسفل جوانبه.
تابعوا سيرهم ببطء، ولكن بعد فترة قصيرة، فوجئوا بمنظر كتلة ضخمة من الركام على الطريق الإسفلتي، نتجت عن انزلاق الصخور والتربة من على سطوح المنحدرات العالية المشرفة عليه، وأصبح من المستحيل على السيارة أن تتقدم إلى الأمام.
لم يبق أمام سلمى سوى أن تقرر فيما إذا كانت ستعود معهما بالسيارة إلى قرية بكفيا، أو أن تستمر بالمشي لمسافة حوالي خمسة عشر كيلو متراً مع هشام، حتى يصلا إلى قريتهما، إنها تعرف أن وتيرة الزلازل ما زالت تزداد باستمرار، لقد اقتنعت لدرجة ما، بأن نهاية العالم قد أصبحت وشيكة، إنها تريد أن ترى أمها وأخواتها قبل أن تموت.
تحت تأثير الخوف من الموت والمجهول، قررت أن تستمر بالمشي مع هشام، حتى تصل إلى قريتها، بالوقت نفسه أدرك هشام أن هذه هي الفرصة الأخيرة لديه، ليسقط جميع الحواجز التي بنتها سلمى، لتقف في وجه حبهما الأول، ربما لم تكن لديها الجرأة بالماضي، لتعبر له عن مشاعرها، بسبب الضغوط الاجتماعية ومغريات الحياة المادية، لكنها ستتحرر الآن في هذه البقعة الموحشة، من كل هذه الضغوطات، وتجد نفسها حرة من جديد لتعطيه حبها، وتمنحه جسدها.
تركا السيارة وفي يد كل واحد منهما قنينة بلاستيكية صغيرة من الماء، يجب أن تكفيه طوال الطريق. أخذا يمشيان على الشريط الترابي الرفيع الذي يجري إلى أعلى التلة مبتعدين عن الطريق الإسفلتي. حاول هشام أن يمسك بيدها متظاهراً بأنه يساعدها على صعود التلة، ولكنها سحبت يدها بإصرار، لمعرفتها بأنها يجب أن تكون صارمة منذ البداية، لكيلا تعطيه المجال ليتمادى معها، إن عليه أن ينضج ويفهم أن علاقتهما قد ماتت، إنها أصبحت امرأة مستقلة، ولم تعد تلك المراهقة الصغيرة التي عرفها، فقد أصبح لها تطلعاتها ومفاهيمها الخاصة في هذه الحياة.
بعد أكثر من نصف ساعة من المشي وصلا إلى قمة التلة، حاول هشام أن يقنعها بأن عليهما أن يتوقفا للاستراحة، قبل أن يواصلا سيرهما في نزول التلة، لكن سلمى خافت من نية هشام، ولكيلا تعطيه الفرصة تابعت سيرها، من دون أن تترك له الفرصة ليختار المسار الآمن ليتبعاه نزولاً إلى أسفل التلة، فتقدم هشام وتجاوزها، وأخذ كتف التلة الأيسر، واتجه بالنزول على شريط شديد الميول من الحصى الخشنة.
استوعب هشام متأخراً خطورة المشي على هذه الحصى، لكن لم يعد له الخيار، فإلى يمينه وعلى مسافة قريبة منه يجري إلى الأسفل خط صخري ذو ميل قاسٍ خطِر، لابد له من الاستمرار بهذا الطريق، إن اختياره الكتف الأيسر للتلة كطريق إلى أسفل الوادي، كان خطأً كبيراً، وأصبح من الصعب عليهما أن يعودا إلى الأعلى، لترجيح مسار آخر جديد للهبوط إلى الوادي، إن عليهما الآن أن يتابعا نزولهما بانتباه وشجاعة، فوحشة المكان وظروف هذا الطريق أنسته جميع تطلعاته الجنسية، أصبح همه الوحيد أن يحافظ على حياة سلمى، إنها مشاعر جديدة بالعطف عليها، تولدت عنده في هذه اللحظات الصعبة، للسير في هذه المناطق الجبلية التي لا يعرفها، يحتاج إلى الحظ ليخدمه بالترجيح بين الاختيارات في المسارات الطبيعية الممتدة أمامه، ليلتقط أيسر الطرق وأقلها خطورة، إنها مثل الحياة، فهي كلها بالنهاية عبارة عن مجموعة من الاختيارات.
التفت برأسه ليتأكد من أن سلمى تنزل المنحدر بثبات، محذراً إياها بضرورة الانتباه لكيلا تتزحلق على هذه الحصى الصغيرة. في هذه الأثناء فقد تركيزه، وداس على حصوة كبيرة بطريقة خاطئة، ففقد توازنه، ووقع على سطح الأرض المنحدرة، وتدحرج إلى الأسفل لأكثر من عشرين متراً، قبل أن يصطدم بصخرة كبيرة في أواخر المنحدر ليتوقف عندها.
شاهدت سلمى الكارثة فانتابها خوف شديد، فانحنت إلى جانبها، وجثت على ركبتيها، ودارت حول نفسها باتجاه هشام، بدأت تنزل الهضبة بحذر، وهي راكعة على ركبتيها ممسكة الحشائش والصخور الثابتة بالأرض، لكيلا تتزحلق، تتمايل بصعوبة مع تعرجات الصخور الموجودة أمامها، لتحافظ على توازنها، مرعوبة من المنظر الذي ينتظرها بالأسفل.
استغرقت هذه المسافة القصيرة من سلمى أكثر من ربع ساعة، وهي تتقدم منحنية على ركبتيها باتجاهه، لقد سمعت صوته وهو يطمئنها من الأسفل أنه بخير، طالباً منها أن تكون حذرة أثناء نزولها التلة، ولم تعرف كيف وصلت إليه، نظرت إليه فلم تشاهد أثراً للدماء، ولم يكن هناك سوى بعض الخدوش الدامية على وجهه ويديه، فارتاحت نفسياً من منظره، وحمدت ربها على أن الوقعة انتهت على خير، فسألته فيما إذا كان يشعر بالألم، فهالها أنه يجد صعوبة في الكلام وهو يجاوبها، إنه يتحامل على نفسه كثيراً، ليعطيها الشعور بالطمأنينة، ويوهمها بأن الأمور كلها على ما يرام.
حاولت أن تقنعه بأنهما سيتابعان سيرهما بعد استراحة قصيرة، وأعطته قنينة الماء البلاستيكية التي معها ليشرب منها، فشرب قطرات قليلة، ليبل ريقه وأعادها إليها، إنه يعرف بأن عليها أن تحافظ على كمية الماء التي معها للطريق الطويل الذي ينتظرها، تأكدت بأنه أصبح عاجزاً عن الحركة، عندما لاحظت آثار الدماء على شفتيه وهو يشرب الماء، وأيقنت أنه من المستحيل أن يتابع الطريق معها، لا شك أنه قد تعرض لنزيف داخلي من جراء ارتطامه بقوة بالصخرة، حبست بشجاعة دمعة حاولت أن تسقط من عينيها، لكيلا تشعره بخطورة الموقف.
طلب منها قبل أن تتركه وحده أن تشعل له سيجارة، الآن عليها أن تذهب بمفردها لتصعد وتنزل الهضاب التي تفصلها عن قريتها لأكثر من خمس ساعات، ثم لتعود بعدها مع بعض أقاربها ومعهم بغل أو حمار ليحملوه إلى القرية، هذا فيما إذا اختارت المسارات الصحيحة في هذه المناطق الوعرة، من المفروض أن تصل إلى القرية قبل حلول الظلام، أو نفاد الماء.
شعر بالعطف على سلمى، وعرض عليها أن يعطيها عبوة الماء التي معه، فرفضت أن تأخذها، لشعورها بأن حاجته إليها أكثر منها، بصعوبة مدَّ يده وأخرج مسدسه الصغير ودفعه إليها، لأنها ربما قد تحتاجه للدفاع عن نفسها في هذه الأماكن الموحشة.
قررت سلمى ألا تضيّع الوقت، مازالت لياقتها البدنية عالية، وعليها أن تصل إلى القرية بسرعة، لتنقذ هشام، انطلقت باتجاه السهل، وما كادت تبتعد عنه، حتى لم تعد تسيطر على مقاومة دموعها، فأجهشت بالبكاء، ربما لشعورها بالندم على استغلالها له بالفترة الأخيرة.
بعد أكثر من نصف ساعة من المشي، التفتت وهي على قمة التلة الصغيرة، ونظرت إلى المنحدر الذي يجلس عليه هشام، فرأته قريباً، وكأنها لم تقطع كل هذه المسافة الطويلة، أحست بأنها هذه هي آخر مرة تشاهده فيها، وكان هشام بالوقت نفسه ينظر إليها من سفح المنحدر إلى الأعلى، وهي تتسلق التلة بصعوبة، خائفاً عليها من أن تتعرض للسقوط الذي يمكن أن يحدث في أي لحظة، متأكداً بأنها هي نظرة الوداع الأخيرة إليها.
إن كل ما يهمه الآن أن تصل سالمة إلى القرية قبل حلول الظلام، أحس برغبة في أن يدخن سيكارة أخرى، حاول أن يحرك يده ليصل إلى علبة السجائر، فلم يستطع تحريكها، تداعت إلى مخيلته أيام مراهقته وحبه الأول لسلمى، فأيقن أنه لن يراها مرة ثانية، اشتاق إلى أمه وتمنى لو أنه لم يترك قريته، وأنه مازال يعيش معها.
لقد مرت صور حياته أمام عينيه، وكأنه يشاهدها بأحد الأفلام السينمائية، رغب لو أن حياته لم تجر بهذا الشكل، ولو أن الحظ ساعده لمرة واحدة، وتزوج من سلمى، لكانت حياته قد تغيرت كلها، وعاش سعيداً معها.
أحس بالنشاط فجأة من تداعي هذه الأفكار المبهجة إلى عقله، وتصور بأنه يستطيع الانتظار حتى وصول سلمى، فحرك يده من جديد للوصول إلى علبة السجائر الموجودة بجانبه، لكنه لم يعد يسيطر على يده، وحتى لا يحس بها، نظر إلى السماء، فشاهد من بعيد غراباً أسود يطير باتجاه الأفق مبتعداً عنه، فأيقن بأنها إشارة من السماء، تعلن بأن عليه أن يرحل بعيداً من هذه الأرض.
عرف في هذه اللحظة أن عليه أن يستسلم، فالمقاومة ليست سوى مضيعة للوقت، إن هناك حياة أخرى سيذهب إليها، تاركاً وراءه هذه الأمور التي كانت تشغل تفكيره في هذه الحياة، إن الشيء الوحيد الذي استمتع فيه بحياته هو شغفه بسلمى، كان يرغب في أن يسألها قبل أن تتركه، أن تسامحه عن كل الوساوس السيئة التي كانت تختلج صدره نحوها، لكن لم تكن عنده الجرأة لذلك، شعر بالتخدير يصعد من أسفل جسمه إلى الأعلى، فغمرته سعادة داخلية وهو يشعر برغبة قوية في أن يغلق عينيه، وينام ويستريح، وليترك هذا العالم الذي لم يتذوق فيه طعم السعادة، باستثناء سنتين وحيدتين، عاش فيهما في قريته قريباً من سلمى.