وصلت إلى مستشفى الحكمة متأخراً، بسب صعوبة الحصول على تاكسي في هذه الأيام، عندما هممت بدخول غرفة والدي، أخبرتني الممرضة بأنه قد فارق الحياة منذ حوالي ربع ساعة، بسبب نوبة قلبية وفقاً لتشخيص الطبيب المناوب. فهززت رأسي رافضاً تصديق ذلك، إذ إنني مازلت معتقداً بأنه مات بالسم الذي دسته زوجة أبي في طعامه، لكي ترث حصتها من ثروته، وخصوصاً أنه في الفترة الأخيرة تفاقمت الخلافات الزوجية بينهما، ووصلت إلى طريق مسدود.
طلبت من إدارة المستشفى أن تقوم بكل التحاليل الطبية اللازمة، للتأكد من سبب وفاته، ونتيجة لهذه الاختبارات، صدر التقرير النهائي، بأنه مات نتيجةً جلطة قلبية.
لقد اعتدت بخبرتي أن أشك في أقوال الأطباء عندنا، لأَنِني موقن بوجود أنواع كثيرة من السموم الحديثة، غير القادرين على اكتشافها، لذلك قررت أن أتحقق من ذلك بنفسي، كنت قد قرأت أن بعض البوذيين يقومون بتجربة خروج الجسم الأثيري من الجسد لفترة قصيرة، فبدأت أجمع المعلومات حول هذا الموضوع، اجتمعت مع خبير روحاني يمارس عملية الإسقاط النجمي، ونصحني بألا أذهب في هذه الرحلة، لأنني قد أكتشف بعض الحقائق الصادمة التي يمكنها أن تدمر حياتي، وأن هناك أشخاصاً كثيرين، قد أصيبوا بالجنون بعد عودتهم من هذه الرحلة، لكني كنت قد وصلت إلى قناعة، بأنه يجب أن أقوم بهذه التجربة بنفسي، لكي أكتشف حقيقة ما حصل، ويرتاح ضميري.
استلقيت على ظهري بالفراش، بعد أن أغلقت باب الغرفة وأطفأت جميع الأنوار، استرخيت، وأخذت أحدق في السقف، وأتلذذ بذلك السكون المهيمن على المكان، متذكراً ما قاله الخبير الروحاني، بأنه يجب ألا أخاف، لأنها تجربة تشابه عملية خروج الروح من الجسد في أثناء النوم، والفرق الوحيد بينهما بأني الآن أمارسها بشكلٍ واعٍ، عليَّ التركيز لكي أشحن جسمي الأثيري بالطاقة، لكي يتمدد فيخرج من جسدي على شكل موجات من الطاقة الضوئية، يمكنها السفر في رحلة خارج جسدي المادي إلى هذا العالم الأثيري الواسع المحيط بِنَا، لأحاول الاجتماع بالجسم الأثيري لوالدي، لكي أسأله عن سبب وفاته.
كنت مدركاً لما يحدث حولي، فالأشياء مختلفة كثيراً عن العالم الحقيقي، والساعة هنا في العالم الأثيري تساوي دقيقة في عالمنا الحقيقي، عليَّ أن أنهي هذه المهمة، وأقابل والدي بأقصى سرعة ممكنة، لأن جسدي الآن راقد على الفراش، من دون طاقة كامنة بداخله، لذا فهو بحكم الميت طبياً، وإذا طالت مدة ابتعادي عنه، وبسبب توقف قلبي عن الخفقان، فسينحبس تدفق الدم في عروقي، وستبدأ مختلف أعضاء جسمي في الوفاة بمعدلات مختلفة، حينئذ يصبح من المستحيل على جسمي الأثيري أن يعود إلى جسدي.
هالتني رؤية جارنا الذي انتحر منذ سنتين، اعتبرتها إشارة كونية على أنني في الطريق الصحيح، كان وجهه مشابهاً للصورة التي أتذكرها عنه، على الرغم من وجود بعض الاختلافات في لونه، فقد حاول أن يوقفني ليشرح لي كيف أن زوجته هي التي دفعته من البلكونة، وأن عليّ أن أخبر الشرطة، ليعيدوا فتح التحقيق في قضيته، لكنني تابعت مساري، ولم ألتفت إليه، فالوقت يمر بسرعة. حتى صادفت صديقاً قديماً لوالدي، طالما ساعدني عندما كنت طالباً بالجامعة، فوجئت بقوله: “يا ولدي شو صار معك حتى جئت مبكراً إلى هنا وأنت في عز الشباب”، استغربت من كلمة يا ولدي. فتابع حديثه: “يجب أن تسامحني، لأن الظروف لم تسمح لي أن أعاملك كوالد بيولوجي حقيقي، على الرغم من أنني حاولت أن أدعمك دائماً بكل إمكانياتي”. أدركت في لحظتها بأنه أبي الحقيقي، وشعرت بالخجل، لأنه استغل طيبة والدي الذي رباني، وخانه مع أمي، كانت هذه الحقيقة صادمة لدرجة أنني فكرت أن أعود أدراجي، ولا سيما أن الوقت بدأ ينفد مني، فتركته من دون أي رغبة في متابعة الحديث.
لقد قررت المخاطرة والاستمرار في طريقي للبحث عن أبي الحقيقي في نظري، الذي رباني وتكفل وضحَّى من أجلي، عندما وصلت إليه، وشاهدني أجهش في البكاء ظناً منه بأني انتقلت إلى العالم الثاني، نظرت إلى ساعتي، لم يبقَ معي من الوقت إلا أربعين ثانية لكي أعود إلى جسدي، أو أنني سأبقى هنا في العالم الأثيري إلى الأبد، نظر والدي إليَّ قائلاً:
“لا مجال للحديث، يجب أن تعود الآن، لم يعد لدينا وقت للكلام، يجب أن تعود بسرعة من أجل ابنك وزوجتك، إنهما أهم ما في العالم”. فحبست الدموع في عيني، وعدت أدراجي، وأنا متأكد بأنه مهما حدث، فسيبقى أعظم رجل قابلته في حياتي، متذكراً في الوقت نفسه، بأن ما هو مقدر لك لن يتجاوزك، وأن هذه التجربة ستقودني إلى المكان الذي يجب أن أكون فيه.