أصبحت الأمور لا تطاق، فالأسعار ترتفع في كل يوم، والبنوك قد قامت بمصادرة ودائعنا بالدولار من دون أي وجه حق. أصبحت القوة هي الطريق الوحيد أمامي لتحصيل نقودي من هؤلاء المحتالين، ما دفعني لاقتحام بنك بيموس، من أجل الحصول على وديعتي المحجوزة بالبنك. بعد أن استلمت عشرة الآلاف دولار من المحاسب تحت تهديد مسدسي الماغنوم، وعند خروجي من باب البنك مباشرةً، كان هناك ثلاثة أشخاص من قوى الأمن الداخلي بانتظاري، تحت تهديد السلاح استعادوا عشرة الآلاف دولار، وصادروا المسدس، وسحبوني إلى مخفر حارة الجديدة، َوألقوني في غرفة خالية من الأثاث، وكنت أسمع وأنا جالس بالغرفة العارية على الأرض أصوات التعذيب الصادرة من غرفة بآخر الدهليز، كنت أدرك أن هدفهم كسر إرادتي وتخويفي، لدفعي إلى الاعتراف بجريمتي آلتي ارتكبتها، من دون أن أتعرض فعلياً للتعذيب. في صباح اليوم التالي، قدموا لي رغيفاً من الخبز مع كأس من الشاي، وبعدها جاء رقيب ومعه شرطي يحمل دفتراً، لقد اكتشفت بأنه جاهل، ولم يكمل تعليمه الابتدائي، حينما سألني كيف أهجي اسمي، ومن شكل خطه السيئ، أدركت بأنهما من قطط السلطة السمان المدللة، أخذ الرقيب يستجوبني عن الجهة التي غررت بي ودفعتني لمهاجمة البنك، كان هدفه انتزاع اعتراف مني بشكل قانوني ليقدموني إلى المحاكمة. بتلك اللحظة اكتشفت خطورة التهمة الموجهة إليّ، وتصورت أيام العذاب التي سوف أقضيها في السجون المختنقة بالنزلاء، والتي أصبحت بؤرة لتكاثر الأوبئة، والدولة عاجزة عن تأمين الحاجات الأساسية للسجناء، بسبب الوضع الاقتصادي السيئ الذي يعيشه البلد . أخبرته بأنني أسمع طنيناً في أذني مع أصوات سماوية، تأمرني أن أنتقم من البنوك التي سرقت أموال الناس، وأني أرى القديسين في منامي يحضّونني على مساعدة المودعين في البنوك لاستعادة أموالهم، وتطرقت إلى أسماء زعماء الطوائف الدينية من مسلمين ومسيحيين، والذين يطالبون الحكومة بأن تساعد المودعين للحصول على حقوقهم من البنوك، وأني أنصاع لتعليماتهم، وأخبرته بأني مكلف من السماء للقيام بهذا العمل النبيل بمباركة رجال الدين. عندما انتهيت من محاضرتي، اكتشفت أن الشرطي لم يسجل ولا كلمة واحدة من اعترافاتي، فتأكدت أنهم سيطلقون سراحي خلال هذا اليوم، لتجنّب الفضيحة بأن الشرطة والحكومة تساندان البنوك ضد إرادة المرجعيات الدينية والمواطنين. فعلاً بعد الظهر أخذني شرطيان إلى سيارة الجيب الواقفة أمام المخفر، وقادوني باتجاه شارع الحمراء، فأدركت حينها بأنني ذاهب إلى بيتي، لكن السيارة لم تتوقف داخل المدينة واتجهت نحو المتن، بالنهاية وجدت نفسي أمام بناء كبير لونه أصفر، على مدخله لافتة كتب عليها معهد الإصلاح الصحي، لم أمانع في ذلك، لأنها تظل أفضل بألف مرة من الذهاب إلى السجن، فأنا أدرك بأنها فترة قصيرة ستنقضي، إلى أن يطلقوا سراحي، وأعود إلى بيتي. بعد أن دخلت المعهد بقليل، هالني وجود الظلام المخيم على داخله، وكانت هناك عدة مصابيح صفراء تتدلى من السقوف، لتضفي على الداخل لوناً مصفراً شاحباً، ولتعطي الرجل داخل البناء شعوراً باليأس والإحباط، حقنتني الممرضة فور وصولي بإبرة مهدئة للأعصاب، وعندما استيقظت في صباح اليوم التالي، وجدت نفسي مع ثلاثة مرضى آخرين في غرفة نظيفة مرتبة، قدموا لنا فطور الصباح، وكان يحتوي على البيض واللحم المقدد، وعلى كأس عصير برتقال طازج، إنه أفضل بكثير من فطوري الذي اعتدت على تناوله في بيتي، وسمحوا لنا أن نتمشى في باحة البناء، حتى حان وقت العشاء فقدموا لنا طعاماً شهياً يحتوي على اللحم الأحمر والخضار، إنه أحسن بعدة مرات من الوجبات التي كنت قد اعتدت عليها، ثم جاءت الممرضة، وأعطت كل واحد منا إبرة مهدئة للأعصاب، فعدنا إلى فراشنا، واستيقظنا عند الصباح، فتذكرت حينها بأني شاهدت مناماً كنت فيه داخل أسطوانة للتصوير المحوري، وكان حولي أشخاص كثيرون بهيئات أوربية وملابس بيضاء طبية. كانوا يتكلمون لغة لا افهمها وتصورت انها الالمانية أو الهولندية. خطر لي بلحظتها، انهم جزء من حكومة العالم الخفية، التئ تخولها هيمنتها المالية والاعلامية سلطة احتكار صياغة حركة العالم . كالعادة في الصباح تناولنا الإفطار، ثم قادونا إلى ساحة كبيرة، ومكثنا بها نتجاذب أطراف الحديث لعدة ساعات، حتى حان موعد وجبة العشاء.. بعد الانتهاء منها، جاءت الممرضة، وأعطت كل واحد منا إبرة مهدئة للأعصاب، فغططنا بنوم عميق حتى صباح اليوم التالي، وظلت هذه الأسطوانة تتكرر خلال الأيام الأربعة الأولى التي أمضيتها بالمعهد، أدركت أن هذا المعهد مأوى لتأهيل المعارضين للسلطة، وذلك بإبقائهم مخدّرين طوال الوقت، أخذت أسأل نفسي: لماذا يعطوننا إبرة مهدئة للأعصاب؟ لقد كان من الأسهل عليهم لو أعطونا حبوباً نبتلعها لتهدئة أعصابنا، لاشك أنهم كانوا مصرين على أن نكون مخدرين بشكل كامل، ليتمكنوا من إجراء بعض التجارب علينا خلال الليل، أيقنت أنني في سباق مع الوقت لإنقاذ حالي، وتمنيت لو أنني كنت قد ذهبت إلى السجن. على الرغم من أن النزلاء كانوا يتفاوتون بالمستوى الثقافي، ولكن كلهم كانوا قد مارسوا عملاً سياسياً أو فكرياً ضد السلطة. كانت الإدارة تعاملنا بشكل ممتاز، مادمنا لا نعارض أوامر القائمين على المعهد، لقد قتلوا الطموحات في شخصياتنا، فأصبحنا سلسين ومطيعين. حاولت أن أعقد حلقة صغيرة خلال وجودنا في الباحة، على الرغم من مُشاهدتي للكاميرات المنصوبة في كل زاوية من البناء، كان هدفي أن أوعي الأشخاص الآخرين بخطورة الموقف الذي نعيشه، إن هناك يداً خفية تدير شؤون العالم، تحاول السيطرة على عقولهم، كنت أود أن أخلق الغضب في داخل كل واحد منهم، فيتحول الجو إلى مناخ ثوري، فيعلنون تمردهم على إدارة المعهد، وتدبّ الفوضى، ونهاجم المشرفين علينا، ونفتح البوابة، ونهرب خارج هذا المصح. بعد أن انتهيت من محاضرتي، قاطعني أحد السجناء، واتهمني بأني أريد تدمير حياتهم الهادئة، فنشب شجار صغير بيننا، وحاول أحد النزلاء أن يزج نفسه بصورة ودية بيننا لفضّ النزاع، إلا أن الشخص الآخر ضربه بيده على وجهه، فتدخل الموجودون، وأنهوا الخصام بسرعة قياسية، لكيلا يكبر الموضوع، لأنهم كانوا مستمتعين بوجودهم داخل هذا البناء وبمجرى حياتهم اليومية، لكن كاميرات المراقبة قامت بتسجيل هذه الحادثة، وكشفت عن محاولتي لتأزيم الوضع وبث الفوضى وتشجيع النزلاء على عدم إطاعة أوامر المعهد. في صباح اليوم التالي لاحظت في أثناء قيام الممرضة بحقني بالإبرة بأن لون المادة الموجودة في داخل إبرتي خضراء، بدلاً من المادة الشفافة البيضاء التي كانت عادةً تحقنني بها يومياً، وشعرت بنوع من التعرق الخفيف في أثناء أخذي الابرة، بعدها استدعاني مدير المعهد إلى مكتبه، ليخبرني بأن البنك قد أسقط حقه في مقاضاتي، وأنني سأخضع للمراقبة لفترة أسبوع، فإذا نجحت بالامتحان، بعدها سيمكنني مغادرة المعهد، شريطة أن أكتب تعهداً خطياً بأني لن أكرر استخدام السلاح، أو القوة لحل مشاكلي بالمستقبل. أدركت بلحظتها أن مدير المعهد قد خطط للتخلص مني نهائياً، لأنني بدأت أخلق المشاكل له، فقررت الهروب على الفور. لقد دخلت في سباق مع الزمن، عندما كانت سيارة نقل الزبالة تهمّ بمغادرة فناء المطبخ، اندسست متخفياً بين براميل الزبالة، مبتغياً الفرار من هذا الجحيم. عند أحد المنعطفات، خففت الشاحنة الصغيرة من سرعتها، قفزت من صندوقها الخلفي، غير مبالٍ بما سوف يحدث لي، وكم كنت محظوظاً، لأنني لم أصب سوى ببعض الخدوش السطحية، شعرت بسعادة بالغة وأنا أقف على قدمي على أسفلت الطريق، فلقد كان الطقس ربيعياً مشمساً، وأخذت الرياح الخفيفة تداعب خصلات شعري، فنظرت إلى السماء الزرقاء الصافية، فاكتشفت كم هي واسعة، إنها تمتد إلى ما لا نهاية في هذا الكون السحيق. لقد أحسست بأنني أولد من جديد، لم أعد أرغب في أن أحول مظلوميتي إلى قضية، أصبح همي هو الخلاص الفردي، بل تحولت أيامي الستة إلى مجرد ذكريات مريرة، لا أودّ أن أعيشها مرة ثانية. بالخلاصة تمكنت من الوصول إلى بيت أختي في طرابلس، وبمساعدة زوجها حصلت على مقعد في أحد زوارق الهجرة غير الشرعية المتجه إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، لكي أطلب اللجوء السياسي، إنها تمثل النقطة التي يجب على اللاجئين المرور عبرها في أثناء سفرهم لدخول أوروبا. وبينما أنا جالس في الزورق، أخذت أفكر بمجرى الأحداث التي عشتها خلال الأسبوع الفائت، لم أكن متأكداً فيما إذا كانت هذه الأمور التي شاهدتها في المعهد حقيقية، وأنها قد حدثت فعلاً على أرض الواقع، أم إنها كانت مجرد خيالات لأحلام اليقظة التي تعودت أن أمارسها باستمرار للهروب من الواقع الصعب الذي أعيش فيه، لذلك قررت ألا أتحدث لأحد من معارفي حول هذا الموضوع، لكيلا يتهموني بالجنون.