كان ذلك في شهر يناير على ما أذكر، وكنت قد التحقت في سلك الشرطة اللبنانية بعد تخرجي في الكلية العسكرية برتبة ملازم ثانٍ، وتمّ فرزي إلى مخفر مدينة جونية التي تبعد حوالي ستة عشر كيلو متراً عن بيروت، لقد أذهلتني جونية بشواطئها الخلابة، وبمنظر التلفريك الذي يصل بين خليجها ومنطقة حريصا التي تقع على قمة التلة المقابلة لها، والمغطَّاة بأشجار الصنوبر والأرز الخضراء، ولاسيما أنني قد نشأت في قرية صغيرة وفقيرة في البقاع.
بينما أنا جالس وراء مكتبي كضابط مناوب في تلك الليلة الباردة، دخل الرقيب الأول إلى غرفتي مضطرباً، وكانت الساعة حوالي الثانية ليلاً، وهو يقول لي: هناك سيدة على الهاتف من قرية فاريا، تريد أن تتحدث مع الضابط في المخفر، رفعت سماعة الهاتف الموجود أمامي على المكتب، لأسمع صوتاً أنثوياً ناعماً رقيقاً، يرتجف من الجهة الأخرى، ما أثار في قلبي خوفاً مبهماً، لأنه بدا مألوفاً، على الرغم من أنني لم أدرك لمن هذا الصوت، عرّفتني على نفسها، بأنها الممثلة نادين، وأنّ لصاً ملثماً دخل منذ قليل إلى منزلها، وهو يحمل مسدساً في يده، ما أجبر زوجها بأن يطلق النار عليه دفاعاً عن زوجته وابنته الوحيدة الصغيرة، فأصابه بعدة طلقات، والسارق الميت ممدد أمامها على الأرض، وهي بحاجة إلى الشرطة لمساعدتها، أعطتني عنوان فيلتها التي تقع بالقرب من الفندق الفخم فاريا فلاج كلوب.
لفحتني الرياح الباردة وأنا أهمُّ بركوب السيارة، ما زاد من ترددي بالذهاب في هذا الوقت المتأخر من الليل، لكنه لم يكن أمامي خيار آخر. انطلقت بسيارة الجيب، وبجانبي الرقيب الأول متجهاً إلى فاريا التي تبعد عنا حوالي خمسة وعشرين كيلومتراُ.
أخذت الطريق الساحلي البحري، ثم انعطفت نحو اليمين، تاركاً خلفي البحر الهائج في خليج جونية بأمواجه الرغوية، وشاهدت أضواء السفن الصغيرة الراسية من بعيد، وبدأت بالصعود في طريق جبلي ضيق مغطى على جانبيه بالثلوج، على الرغم من أن الثلوج كانت قد بدأت بالذوبان بفعل حرارة اليوم السابق، لتفسح الطريق لسيارة الجيب لكي تمر بسلام على الطريق الإسفلتي، لكنني كنت حذراً وأنا أقود السيارة، فالطريق يصعد بشكل متعرج قاسٍ وبصورة غامضة، وعلى جوانبه منحدرات شديدة الميول، ما زاد من شعوري بالوحدة.
عند وصولي إلى البلدة، اتجهت فوراً إلى فندق فاريا فلوح كلوب، كانت بجانبه عدة فيلات راقية متشابهة، تفصل بينها أسوار من أشجار الصنوبر، حتى وقع نظري على فيلا كبيرة وحديثة البناء مطلة على مساحة واسعة من الخضرة وأشجار الصنوبر، كما وصفتها الممثلة نادين على الهاتف، فاتجهت إلى بوابتها الحديدية الكبيرة، وما كدت أقترب منها، حتى فتح لي أحد العاملين الباب، وقال لي: إن المدام بالداخل في انتظاري، فاقتربت بسيارتي من مدخل الفيلا، لاحظت أن الفيلا بيضاء واسعة مبنية على الطراز الأميركي، وهناك حوض سباحة ضخم مواجه للمدخل، وألعاب متناثرة على العشب الأخضر المنتظم والكثيف، تتخلله ممرات من الحجر الأملس بنمط هندسي جميل، ما يدل على الذوق الرفيع والحياة المترفة التي تعيشها الممثلة نادين، وقارنتها لا شعورياً بوضعي المادي الصعب الذي أعيشه، وبراتبي المحدود الذي بالكاد يكفيني حتى نهاية الشهر.
وجدت السيدة نادين واقفةً بانتظاري عند مدخل فيلتها، وهي متلهفة للقائي، ما سبب لي بعض الشك. قادتني مباشرة إلى الممر العريض المتصل بالصالون، حيث كانت جثة القتيل مكومة على الأرض مغطاة بالدماء، وعلى وجهه قناع أسود يغطي جزءاً من رأسه، وبجانبه مسدس بلاستيكي يشبه لعب الأطفال. طلبت من الجميع عدم لمس جثة القتيل، حتى يحضر المحقق الجنائي في صباح اليوم التالي، لأن الساعة كانت متأخرة في ذلك الوقت، طلبت من المدام أن تسمح لي بأن أتجول بالفيلا، لعلي أتمكن من تحديد المكان الذي دخل منه اللص إلى الفيلا، وأثناء تنقلي في الداخل لاحظت وجود صالة رياضية كبيرة إلى يساري، وتواجهها صالة مخصصة للسينما وساونا وصالون تجميل، فتأكدت من فخامة الحياة التي تعيشها مع أسرتها، ولكن الذي لفت نظري أن جميع نوافذ الفيلا مغطاة بشبك حديدي مشكل بطريقة فنية جميلة، بشكل أوراق الشجر، للحفاظ على البيت من السرقة، فأدركت في لحظتها، أنه لابد من أن أحد العاملين بالمنزل، قد سهّل له دخول الفيلا، ولاسيما أنني كنت قد شاهدت عند المدخل ثلاثة أشخاص من الحرس واقفين بالحديقة أمام المدخل.
بعد قليل نزل زوج المدام من الطابق الأعلى وسلّم عليَّ، وجلس على الكنبة المقابلة لي، وهو من رجال الأعمال الأغنياء المشهورين في بيروت، وجدت نفسي مضطراً نتيجة الشهرة والغنى لهذه العائلة، من أن أقول مواسياً له: الحمد لله على سلامتكم، هناك خوف ماثل في عقلي الباطن من الطبقة الغنية النافذة التي تسيطر على مقدرات البلد، تربيت عليه منذ الصغر، فبادرني بالحديث وهو ينظر إلى وجه زوجته، وكأنه يتحاشى النظر في عينيَّ، بأنه اضطر إلى إطلاق النار على اللص بعد أن أشهر المسدس بوجهه، وهدده بقتل عائلته.
راقبت يديه وهما ترتجفان وهو يحدثني بصوت متقطع عن هذه الفاجعة، ما جعلني أخمّن بأنه يعاني اضطراباً نفسياً شديداً، أو أنه قد تناول كمية من الكحول أو المهدئات، هنا تدخلت زوجته نادين مباشرةً، وقالت لي: إنها أصيبت بطلق ناري في رجلها أثناء تبادل إطلاق النار بين زوجها وبين السارق السوري الجنسية، فلاحظت حينها وجود ضمادة بلاستيكية صغيرة على بشرتها البيضاء الناعمة.
لم أستوعب كل حديثها، فقررت أنه من الأفضل أن أنتظر إلى صباح اليوم التالي، إلى حين وصول رئيسي النقيب بالمخفر مع المحقق الجنائي لموقع الجريمة لكتابة محضر التحقيق، فهناك حلقة مفقودة في هذه القصة، لقد أدركت بأن الموضوع أكبر مني، ولا أريد أن أتورط في هذه القضية، التي ربما قد تتشعب، لتقضي على مستقبلي في سلك الشرطة.
أثناء حديثنا دخلت خادمة فلبينية جميلة نحيلة قصيرة القامة ذات شعر أسود كثيف، تمتاز بتلك النضارة التي تمتاز بها كل البنات في سن العشرينيات، وفي يدها ثلاثة فناجين من القهوة التركية، حاولت أن أسألها باللغة الإنكليزية خلال هذه الثواني، فيما إذا كانت تعرف القتيل الملقى على الأرض، وقبل أن تجيبني بأي كلمة تدخلت نادين قائلة لي: إن الخادمة لا تعرف الإنكليزية، فلم تترك لي مجالاً للاستمرار بالحديث. وللمرة الثانية وجدت نفسي خائفاً من متابعة القضية. ختمت جلستي بحديث أقرب إلى الثرثرة منه إلى التحقيق، مؤكداً أن على الجميع عدم لمس الجثة، أو اللعب بكاميرات المراقبة الموزعة داخل الفيلا، حتى حضور المحقق الجنائي في صباح اليوم التالي.
عدت مباشرة إلى مكتبي في المخفر، واتصلت عبر الهاتف على بيت رئيسي النقيب، و أخبرته بتفاصيل الجريمة التي وقعت قبل ساعات في بيت الممثلة نادين، ما كدت أنتهي من حديثي حتى سمعته يقول بسخرية: الممثلة نادين بشحمها ودمها، فهززت رأسي بالإيجاب وأجبت بنعم.. فقال لي: إنه سيحضر فوراً. ما كاد يصل إلى المخفر حتى اتصل بالمحقق الجنائي، وأعطاه عنوان فيلا الممثلة نادين، واتفقا على أن نلتقي غداً الساعة السادسة صباحاً في الفيلا.
مع بزوغ أول خيط من أشعة الشمس في الصباح، انطلقت مع النقيب باتجاه الفيلا، بعد وصولنا بحوالي نصف ساعة وصل المحقق، في وقتها كان النقيب منهمكاً في أخذ إفادة المدام نادين، حول عملية إطلاق النار التي جرت في فيلتها، قام المحقق بخلع ملابس الجثة الملقاة على الأرض، وأخذ قلماً وبدأ يرسم دوائر على موقع كل طلقة في جسد القتيل، حتى وصل عدد الطلقات النارية التي دخلت جسمه إلى خمس عشرة طلقة، بعدها بدأ بكتابة تقريره الرسمي، فذكر أن خمس عشرة طلقة أصابت جسم القتيل من الأمام، وأن سبعاً منها اخترقت جسده، وخرجت من الخلف، لكني لاحظت بعيني المجردة لأنني كنت واقفاً إلى جانبه، أثناء معاينته للجثة، بأن ثلاث طلقات منها، كانت فتحاتها في جسم القتيل من الخلف، أصغر من فتحات الطلقات الأربع الموجودة بجانبها، والتي خرجت من جسم القتيل.
كنت قد درست في الكلية الحربية بأن المقذوف وهو يخترق جسم الإنسان يتشوه نتيجة اصطدامه بالأنسجة، وقد يسوق أمامه أثناء سيره بالجسم شظايا عظمية، ما يؤدي إلى توسيع فتحة خروجه من الجسم، فيصبح جرح الخروج أكبر من جرح الدخول، أبديت هذه الملاحظة للمحقق وقلت له: إن القتيل قد تلقى ثلاث طلقات من الخلف، فغمغم بكلمات غير واضحة…، شارحاً لي، بأن فتحة الجرح تتوقف أحياناً على نوع السلاح المستعمل، وعلى المسافة التي أطلق منها المقذوف، وأن تقريره الحالي هو تقرير ميداني أولي، وعند أخذ الجثة إلى المشرحة سيقوم الطبيب الشرعي بالتدقيق في اتجاه مصدر إطلاق النار، وتابع كتابة تقريره من دون أن يعطيني أدنى اهتمام، في هذه الأثناء ناداني النقيب، وطلب مني أن أتوقف عن التدخل في عمل المحقق.
تابع النقيب تحقيقاته مع زوج السيدة نادين، حاول أن يفهم منه كيف دخل السارق إلى الفيلا، فأجابه: إن اللص دخل الفيلا من الباب الرئيسي، بعد أن هدد الحارسين الموجودين في الحديقة بمسدسه….، ما اضطرهما لأن يفتحا له الباب، هنا حاولت أن أجاريهما بالحديث فسألته: ماذا فعل الحارسان بعد أن سمحا له بدخول الفيلا؟ حينئذٍ أشار عليّ النقيب بيده لكي أتوقف عن التدخل في مجريات التحقيق، وتابع بنفسه استكمال الأسئلة. شعرت بأن هناك حلقة مفقودة في هذه النقطة، وأن الموضوع أصبح بحاجة إلى المحقق بوارو، بطل قصص الكاتبة أجاثا كريستي لاكتشاف الدافع وراء هذه الجريمة.
استمر بالتحقيق مع زوج المدام، حتى وصل إلى الموقف، الذي تحدث فيه مع السارق الملثم، وعرض عليه أن يعطيه ما يريد من الدولارات، مقابل أن يترك الفيلا ويخرج بسلام، لكن اللص رفض ذلك، وأصر بالذهاب إلى غرفة النوم التي فيها زوجته نادين وابنتهما، وخلال تجواله في الممر، الذي لا توجد فيه كاميرات المراقبة، وعند اقترابه من باب غرفة النوم، حينها وجد زوج نادين نفسه مضطراً إلى إطلاق النار عليه من مسدسه الأوتوماتيكي عيار تسعة مليمتر، واستمر بالضغط على زناد المسدس حتى نفدت ذخيرته، ولم يعرف عدد الطلقات التي خرجت من مسدسه، لأنه كان تحت ضغوط عصبية رهيبة من شدة خوفه على عائلته، لم أستطع أن أضبط أعصابي، فتدخلت من جديد وسألته، كيف يمكنك أن تجري هذا الحديث الطويل مع هذا الشخص الغريب الذي لا تعرفه في هذه اللحظة، تغيّرت ملامح وجه النقيب من الغضب، والتفت نحوي قائلاً: الحقيقة واضحة كالشمس، دخل اللص وهو يحمل مسدساً بلاستيكياً، ولو أراد صاحب الفيلا أن يتلاعب بالأدلة الجنائية، لأخذ المسدس البلاستيكي واستبدله بمسدس حقيقي من المسدسات الموجودة مع حراس الفيلا…. وبناءً على ذلك تصبح القضية منتهية، ولا داعي لإجراء التحقيق، ثم استدار باتجاهي قائلاً: أنا أعرف أنك ملازم ذكي جداً.. لكن مشكلتك بأنك تركز على التفاصيل، ما يجعلك تنسى لبَّ الموضوع، فتضيع الحقيقة، وقال باللغة الفرنسية: الشيطان يكمن في التفاصيل التي يتباهى بأنه يتقنها ببراعة، ويخلطها أحياناً مع الكلمات العربية أثناء حديثه، ليجذب انتباه من حوله إليه، وليخبرهم بأنه تعلم في المدارس الفرنسية، التي ترددها عادة الطبقة الميسورة في المجتمع اللبناني.
في الحقيقة، فاجأني بهذا التحليل المنطقي، فوجدت نفسي عاجزاً عن الرد عليه، فواصل تحقيقاته مع زوج المدام قائلاً: إنه يعتقد أن اللص شخص منحرف جنسياً، ولذلك حاول الدخول إلى غرفة نوم نادين، لكنني لاحظت أنه لم يكتب هذه الجملة في سياق تقريره.
بعدها جاء المحقق وفحص رجل الممثلة نادين، وكتب في تقريره بأن الجرح العميق ناتج عن اصطدام رجلها بحافة باب الحمام أثناء دخولها إليه بسرعة مع ابنتها، لتحتمي هي وابنتها من الطلقات النارية، وأنها تحت عامل الخوف والشعور بالتهديد، تصورت أنها أصيبت بطلقة نارية، بينما كان التحقيق يشارف على نهايته.
رجوت النقيب بأن يستدعي الخادمة الفلبينية لكي يأخذ إفادتها، هنا تدخلت نادين بشراسة قائلةً: بأنها أرسلت الخادمة وابنتها الصغيرة منذ الصباح الباكر إلى بيت أمها في بيروت، لكي تبعد ابنتها عن دوامة الرعب المسيطرة على الفيلا، ولكيلا تتأثر نفسيتها بمنظر الجثة المخيفة الممددة على أرضية الممر، فهزّ النقيب رأسه بالموافقة، والتفت إليّ للمرة الثانية قائلاً: لا تغرق بالتفاصيل الصغيرة، حتى لا تنسى هدفك الرئيسي، ثم طلب من الحارس الموجود بالفيلا تسليمه جميع الأفلام العائدة لكاميرات المراقبة الموجودة بداخل وخارج الفيلا، ليرسلها إلى المخبر الجنائي لمراجعتها والتحقق منها.
استغرقت عملية استجواب الشهود ومعاينة الجثة أكثر من ساعة ونصف، بعدها جلسنا في الصالون ندردش مع نادين وزوجها، وأحضرت لنا إحدى الخادمات الشاي، مع قالب كبير من كاتو الشوكولا المحشو بالفاكهة، وبينما كنت آكل قطعة الكاتو، تبادر إلى ذهني…. يا ترى كم ثمن هذا القالب؟ مئة دولار… مئتا دولار؟ وما ثمن هذه الفيلا الفخمة؟ عشرة ملايين… عشرون مليون دولار…. كم تملك هذه العائلة؟ خمسون.. مئة مليون دولار، وشعرت بنوع من الحقد على هذه الحياة المترفة التي تعيشها نادين مع زوجها، إنها امرأة جميلة رائعة، يتمنى كل رجل منا، لو أنها كانت زوجته، لكني تجاوزت شعوري بالكراهية لزوج نادين، وعدت للتفكير بفرضية أن أسرار حياة الإنسان كلها مخبأة في الأرقام، ويمكن معرفة ما يخبئه لنا الزمن من هذه الأرقام، فهناك صلة بين الإنسان والأرقام التي تحيط به، وتتداخل في حياته، فالأرقام هي الشيء الوحيد التي لها بعدٌ كمي في هذا الكون، ولكل رقم قوة خاصة به تميزه عن بقية الأرقام، فلو جمعنا اليوم عدد الطلقات الخمس عشرة التي أصيب بها القتيل، مع رقم عيار المسدس الذي هو تسعة مليمتر، لحصلنا على الرقم أربعة وعشرين، وهو تماماً عمر القتيل نفسه، الممدد أمامنا على أرضية الممر المجاور، إن الطبيعة كلها يمكن تفسيرها بلغة الأرقام.
فجأة قطع نسيج تأملاتي صوت المدام نادين، وهي توجه نظرها ناحيتي متسائلة، بماذا يفكر ملازمنا، وفي لهجتها الكثير من الرقة والدلع، لرفع الكلفة بيننا، أُحرجتُ من سؤالها، لأنني لو نقلت لها ما يدور في رأسي من الأفكار، لخافت مني ولاتهمتني بالجنون، فقلت لها بعفوية: الحياة مستمرة، ولا تتوقف على أحد، فضحكت بصوت عالٍ دون تصنع، فازداد إعجابي بشخصيتها، وبجمال نغمة صوت ضحكتها.
غيَّر زوجها دفة الحديث وسألني: ما رأيك في هذه المظاهرات التي تجتاح لبنان؟ فأجبته ببساطة وأنا أتظاهر بأنني أنتمي إلى الطبقة نفسها، التي ينتمي إليها جميع الحاضرين، فورة مؤقتة بالشارع، وستنتهي عندما يتعب المتظاهرون، ويأتي الشتاء. لاحظت عينيه تبرقان لتظهرا هذا الذكاء والدهاء الكامنين في داخلهما، وهو يقول لي: إن الموضوع أخطر من ذلك بكثير، إن بقايا الشيوعيين واليساريين يركبون موجة الإضرابات، من أجل تحطيم البلد اقتصادياً وتفليس البنوك، حتى إذا انهار البلد، تمكنوا من استلام الحكم.
كعادته قطع النقيب الحوار ليستلم دفة الحديث، وليوجهه بطريقة تضفي على ذاته بعض الأهمية قائلاً: إنه منذ يومين كان باجتماع مع كبار المسؤولين بالدولة، ونبههم إلى خطورة هذه المظاهرات التي اندلعت منذ أكثر من شهر، وطلب منهم إعطاء الضباط القادة في جهاز الأمن الصلاحيات اللازمة لاستخدام القوة المفرطة، ولإنهاء هذه المظاهرات بسرعة، لكن زوج المدام أجابه بخبث: إن الموضوع يفوق طاقة الشرطة، وإن على الجيش أن يتدخل بالقوة لسحق بقايا الشيوعيين واليساريين، إن الشيوعيين يثيرون الفقراء والزعران، ويوعدونهم بأنه إذا انتصرت الثورة، فسوف يصادرون أموال الأغنياء وممتلكاتهم ويتقاسمونها فيما بينهم، المشكلة أن الفقراء في لبنان يحسدون الأغنياء، ويريدون أن يعيشوا بمستواهم.
بعد أن انتهى من جملته، شعرت بعداوة غريبة لهذا الشخص، ولم أجرؤ أن أقول له: إن الفقر مؤلم، وأنا جربته على جرعات قاتلة، بعد وفاة والدي بقريتي الصغيرة في البقاع، إن الفقر الآن بدأ ينهش الطبقة الوسطى الكبيرة في بيروت، وانتشر كالسرطان في كل زاوية في لبنان، إن لبنان الذي نعرفه قبل هذه المظاهرات، لن يعود أبداً كما كان، ولعل حصوله على هذه الزوجة الحسناء المدللة، قد ساهم في زيادة كراهيتي له.
حاول المحقق أن يجارينا في هذا النقاش، فقال: إن كل مشاكل لبنان جاءت من اللاجئين السوريين الذين يزيد عددهم على مليونين، ولقد آن الأوان لتسفيرهم إلى بلدهم سورية، بعد أن هدأت الأحوال فيها.
لم يعلق أحد على مداخلته، لأن الجميع كانوا يعرفون أن السبب الحقيقي لهذا الحراك يتلخص في أن الأغنياء والسياسيين قد تشاركوا في سرقة البلد على حساب الفقراء، وأن هذه المظاهرات لن تنتهي إلا بحرب أهلية طائفية، أو بإعطاء الفقراء المهمشين بعضاً من حقوقهم المسلوبة، لم أشارك كثيراً في هذا الجدال خوفاً على مستقبلي في سلك الشرطة.
انتهت جلسة التحقيقات، خرجت مع النقيب واتجهنا إلى سيارة الجيب، كان الجو صافياً تحت أشعة الشمس التي ظهرت لأول مرة منذ يومين خلف جوانب الجبال المحيطة بقرية فاريا، ما جعل الهواء دافئاً بشكل لطيف، رغم أن الرياح التي تهب من قمم الجبال، مازال لديها حدة البرد القارس.
على الجانب المقابل من الفيلا، ظهرت قمة جبل صنين المغطاة بالثلوج، تلمع تحت أشعة الشمس، لتظهر منظراً ممتعاً، كنت قد حرمت من رؤيته بالأمس بسبب الظلام، شعرت بوجودي كما لم أشعر به من قبل. وأنا أفكر بتقاطيع وجه نادين، وأتحسس نبرات صوتها الناعم، وكأنها ماثلة أمامي. طردت هذا الوسواس من عقلي، قبل أن يقودني إلى الجنون. جلست خلف مقود السيارة، منطلقاً عبر الطريق الملتوي الهابط بشكل قاسٍ باتجاه أسفل التلة، وظلت السيارة تواصل نزولها على الطريق الإسفلتي الضيق تحت أشعة الشمس الساطعة، التي ساهمت في سرعة ذوبان الثلوج، وعادت الطبيعة إلى لونها الأخضر الجميل. وكنت أسمع صوت خرير الماء في الجداول التي تشكلت في الخنادق على حافتي الطريق، وعندما انحنى الطريق على كتف التلة، ظهرت أمامنا مدينة جونية تحتضن البحر الأزرق، معطيةً ظهرها لقمم الجبال العالية المغطاة بالثلوج.
بالمصادفة وبعد ثلاثة أيام من هذه الحادثة، وبينما أنا جالس أتابع قناة هنا، وهي قناة فضائية لبنانية، شاهدت برنامجاً تلفزيونياً عن هذه الجريمة، وقد تحدث مقدم البرنامج مع أم القتيل السوري من قريتها في شمال سورية، وفيه دافعت عن ابنها، وقالت: إن ابنها ليس سارقاً، وكان يعمل بستانياً في حديقة فيلا السيدة نادين، وإنه قبل ثلاثة أشهر طرده زوجها من عمله، لأنه وجده في الصباح الباكر داخل الفيلا. حيث إنه دخلها ليأخذ كيس القمامة من المطبخ إلى خارج الفيلا، فاستدعى زوجها حرس الفيلا، وطلب منهم أن يمنعوه من الاقتراب من الفيلا، رافضاً أن يعطيه تعويض نهاية الخدمة وراتب الشهر الحالي، وراتب شهر الإنذار، كما ينص قانون العمل، وإن مجموع هذه المبالغ بحدود تسعمئة وسبعين دولاراً. ومنذ خمسة أيام اتصل أمامها من جواله في سورية، مع سكرتيرة زوج المدام، واسمها هيفاء، طلب منها خلال محادثته معها أن تبلغ معلمها المليونير، بأنه بحاجة إلى مستحقاته، وأنه سيحضر في اليوم التالي إلى لبنان، وسيمر على الفيلا لأخذ التسعمئة والسبعين دولاراً، وبأنه من الأفضل أن يدفع له هذا المبلغ بالحسنى، وإلا فإنه سيأخذه بقوة ذراعه، وانتهت المكالمة عند هذا الحد.
اعتبرت هذا الحديث هو إشارة من السماء، فلقد سمعته بعد ثلاثة أيام من زيارتي إلى فيلا السيدة نادين، وأنه قد تمّ طرده قبل ثلاثة أشهر، وأن المبلغ بحدود التسعمئة دولار، وهذا الرقم هو من مضاعفات الرقم ثلاثة، وبما أنه لا توجد مصادفة في عالم الأرقام، فهذه دلالة لا تقبل الجدال، ولم أستطع النوم في تلك الليلة، وأنا أترقب طلوع الفجر حتى أذهب إلى المخفر.
جلست أكثر من أربع ساعات، وأنا أترقب وصول النقيب إلى المخفر، بعد أن جلس خلف مكتبه، وصبّحت عليه، باشرته بقولي: إنني سمعت محادثة على التلفزيون بين أم القتيل السوري ومقدم البرنامج، وقبل أن أنتهي من حديثي قاطعني قائلاً: ماذا تتوقع أن تقول أم القتيل عن ابنها أمام جيرانها الفلاحين بالقرية؟ فأدركت أنه قد شاهد هذا البرنامج التلفزيوني أيضاً.
طلبت منه بوصفه المحقق الرئيسي في موضوع الجريمة، بأن يتصل بفرع المعلومات، لكي يتم التأكد من فرع داتا الاتصالات، فيما إذا كانت فعلاً قد تمت هذه المكالمة الهاتفية من سورية، فتفجر الغضب من تقاسيم وجهه، واتسعت حدقة عينيه، وقال لي بصوت عالٍ: اصحَ…. الموضوع انتهى وأغلقت القضية، وبعد أسبوع سيصدر القاضي حكماً ببراءة زوج نادين، مستنداً إلى أن حادثة القتل، كانت دفاعاً عن النفس، هل تتصور أنك أنت الشخص الوحيد الذكي في هذا البلد الذي يمكنه أن يعرف طريقة تعقب المكالمات الهاتفية… اللي فينا بكفينا… بيروت تحترق… والمظاهرات تتوسع في كل يوم، والمتظاهرون يحاولون تدمير مؤسسات الدولة، وأنت مازلت مشغولاً بالتفكير بنادين.
شاهد علامات الامتعاض التي بدت على وجهي، فخفف من لهجته قائلاً: يا سيدي لنفرض أن كلام أم القتيل السوري صحيح… ماذا تتوقع من زوج نادين أن يفعل عندما يدخل الرجل إلى بيته في منتصف الليل؟ لقد عرض عليه مبلغاً كبيراً من المال ليغادر الفيلا، ولكنه رفض أخذه، وحاول أن يدخل إلى غرفة زوجته نادين…. هل تتوقع منه أن يقف متفرجاً؟ كان لا بدَّ له من أن يفعل ما فعله، وأعتقد أنك لو كنت في مكانه لفعلت الشيء نفسه، ولنفرض أن زوجها ذهب إلى السجن، وتطلقت زوجته نادين، فإن أكثر من مئة مليونير جاهزون للزواج منها، حاولت أن أبعد الشبهة عن نفسي. فأجبته: إنني أبحث عن العدالة فقط، فزمّ شفتيه قائلاً: لا توجد عدالة في هذا العالم الذي نعيش فيه…. إذا كنت تريد العدالة فسافر إلى السماء لعند الله.
عاد ليردّد بيروت تحترق.. المتظاهرون أخذوا ينهبون أجهزة الصراف الآلي الموجودة عند مداخل البنوك، كما حاولوا البارحة اقتحام مبنى مجلس النواب، وأشعلوا الحرائق في الدكاكين التجارية ضمن الأسواق الرئيسية في مركز العاصمة، إنهم لا يريدون الإصلاح، بل يريدون تدمير المؤسسات الحكومية، لقد استلمت البارحة تقريراً من فرع المكتب الثاني بالمخابرات، وفيه أسماء وصور الشيوعيين والفوضويين الذين يقودون المتظاهرين في مدينة جونية، وأريد منك أن تندس غداً باللباس المدني بين المتظاهرين، لتقوم بتصوير الأشخاص الذين يقودون المظاهرات بوساطة هاتفك الجوال، علينا أن نتأكد من وجود هذه الأسماء في المظاهرات، قبل أن نقوم بإلقاء القبض عليهم، لكي ننقذ لبنان .من الانهيار، وأنا أتوقع من كل عنصر في هذا المخفر، بأن يقوم بواجبه تجاه وطنه لبنان
استمرت المظاهرات في لبنان لشهرها الثاني ولم تتوقف ، وأخذت خطاً تصاعدياً . نتيجةً لتدهور
الأحوال الاقتصادية. واندلعت الاشتباكات العنيفة بين عناصرنا والمتمردين في كل مكان . فكنت ملزماً باستعمال العنف مع المتظاهرين . وفقاً لتعليمات قيادة قوى الأمن . أطلقنا الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع، مما ادى الى وقوع عشرات الجرحي وبعض القتلى . وأصبح ولائي للبنان منقسماً، بين واجبي كضابط في قوى الأمن . وبين تعاطفي مع المتظاهرين . الذين يسعون الى تدمير الطبقة الحاكمة الغنية في لبنان . فوجدت نفسي أعيش في دوامة التناقضات . لأخسر هذا السلام الداخلي الذي اعتراني ، منذ انتقالي الى مخفر جونية .
انشغالي في قمع هذه الاحتجاجات . لم يمنعني من التفكير بنادين . فشكلها لا يفارقني طوال الوقت . وضعت صورة لها. على الطاولة الصغيرة في غرفة نومي ، لكي انظر اليها باستمرار . قضيت بعض الليالي ، لا يغمض لي فيها جفن ، وانا أمارس احلام اليقظة ، متخيلاً بأنها أصبحت زوجتي. بالرغم من معرفتي بأنها تكبرني بسبعة أعوام، وانه من المستحيل ان أتمكن من الحصول عليها . فأمسيت غير قادرٍ، على التخلص من هذه التصرفات الغريبة . التي بدأت تقودني الى هاوية الانهيار . فكان لا بد لي من ان أضع حداً، لهذه الوساوس التي أعيشها . بأي شكل من الأشكال .
في صباح اليوم التالي ، فور وصولي الى المخفر . راجعت سجلات المخفر . واخرجت منه رقم الهاتف الجوال .
الذي اتصل بنا على المخفر، في تلك الليلة الباردة . ليخبرنا بالجريمة التي حدثت في فيلة نادين . جلست اكثر من أربعة ساعات، وأنا انظر الى ساعة هاتفي بالجوال . فالوقت مازال باكراً، وربما مازالت نائمة حتى الآن . حتى جاء الظهر، ومع ذلك ترددت كثيراً قبل ان اطلب هذا الرقم . ظل جرس الهاتف يرن ويرن . الى انني من خوفي فكرت أن أقفل الخط . ثم جائني صوتها ببحته الغامضة ، والذي أستطيع ان اميزه من بين جميع أصوات نساء العالم . قائلة : بنشافة . صباح الخير، من معي على الخط .. حاولت ان أبدو طبيعياً وانا أسيطر على نبرات صوتي : صباح النور مدام ..
أنا الملازم سعيد من مخفر جونية … لا اعرف اذا ما زلت بتتذكريني . فارتفعت ضحكتها الأنثوية في دلال وغنج …. وهل يخفى القمر . شعرت ان في لهجتها كثيراً من التشجيع، فاستمريت بحديثي ، وكأنني مراهق يتكلم للمرة الأولى في حياته مع امرأة جميلة . ومع هذا، كنت حذراً في حديثي معها ، لأنني أعرف بأن خطوط الهاتف مراقبة . وبالنهاية ختمت حديثها قائلة .. عندما يصير معك وقت .. تعال شرفنا، واشرب فنجان قهوة بالفيلا .
لما انتهى دوامي بالمخفر في الساعة الثالثة . أخذت مباشرةً سيارة الجيب ، وانطلقت الى فاريا . ينتابني شعوراً بالسعادة . وأنا أشق طريقي مسرعاً في هذا اليوم المشمس . غير عابئ بالطريق المتعرج الصاعد نحو قمة التلة . لقد رحل الشتاء القاسي وذابت الثلوج . لكن آثاره بقيت على جنبات الجبال وعلى قمة جبل صنين . كأن الطبيعة عروس ، قد
فاقت من نومها، مكتسيةً ثوبها الأخضر الزاهي، الذي نسجته أشجار الصنوبر والأرز على امتداد البصر . وكأنني طفل صغير ذاهباً للقاء أمه . بعد ان غاب عنها لفترة طويلة .
وصلت الفيلا، فتحت لي الخادمة الفلبينية الباب. والتي كنت أحس دائماً، بأنها كاتمة اسرار المدام ، فعرفتني فوراً، وقادتني الى صالون الاستقبال . جلست حوالي ربع ساعة لوحدي ، منتظراً قدوم نادين . وانا ارتب في ذهني الكلمات التي سوف أقولها، لأبرر لها هذه الزيارة المفاجئة التي حملتني الى فيلتها. عندما جاءت نادين ، شممت رائحة عطرها النفاذ ، يعبق بكثافة، ليملأ الصالون . كانت مرتدية خف أبيض مفتوح، يكشف عن أصابع قدميها الناعمتين . ولونت أظافر قدميها بلون قرمزي لماع . مما حرك الشهوة في نفسي . لأَني أؤمن بأن جمال المرأة يبدأ من أصابع قدميها . وعليها فستان أسود ، مكسي في أسفله . لكنه شفاف في جزئه العلوي . يبرز من تحته حمالة صدر سوداء ، جاعلةً صدرها الصغير يبدو كبيراً ، ويمنحه طلة مغرية . وفوق الفستان عباءة بيضاء . تدمج بين الكشمير والجلد والمخمل . في ألوان زاهية متلألئة . هذا الاستقبال المبهج ، أعطاني الانطباع ، بأنني اعرفها منذ زمن بعيد . خطر في ذهني في هذه اللحظة اننا ربما كنّا نعرف بعضنا قبل هذا العالم ، من عوالم سابقة . كانت أرواحنا قد التقت فيها منذ زمن سحيق . ولكننا لا نتذكر عنه شيئاً .
بعد ان جلست امامي على الكنبة ، سألتني ماذا تفضل ان تشرب قهوة أم شاي …ثم ضحكت قائلة … من الأفضل ان نشرب الويسكي… لأننا نعرف على الأقل، بأنه يحل مشاكلنا … لأننا بعد كاسين ، سننسى ماهي المشكلة أصلاً .. فوافقت دون تردد . وتطرق بنا الحديث عن اوضاع المظاهرات في لبنان. وفي سياق حديثنا سألتها …. هل زوجها موجود بالفيلا . فأجابتني بأنه في باريس، وسيحضر بعد يومين . حينها أحسست بالإطمئنان . لأنني أشعر بحقد شديد نحو هذا الرجل ، ودائماً أتساءل . لماذا تزوجته وهو أكبر منها بأكثر من عشرين سنة . وكيف يمكنها ان تتحمل سماجته، وان تنام معه .دخلت بعد قليل الخادمة الفلبينية، وهي تجر عربة صغيرة . عليها جميع انواع المشروبات الروحية التي أعرفها . قامت نادين من مكانها فلاحظت قامتها الممشوقة وجمالها المبهر . الذي كان السبب الرئيسي للشهرة التي حصدتها . وسكبت لي كاساً من الويسكي . وغرقنا في الأحاديث، عن تفاصيل حياتها الصغيرة التي كنت أحلم في معرفتها .
عندما تجلس مع امرأة جميلة يمضي الوقت سريعاً ، وتشعر بالساعة وكأنها دقيقة . لكنك عندما تجلس
مع بنت بشعة . فتبدو لك الدقيقة وكأنها ساعة . وهذا هو شرح أنشتاين لنظريته عن النسبية . بعد كأسين . غيرت
من مكاني وجلست الى جانبها، على طرف الكنبة وأنا أميل بجسدي قليلاً نحوها. محاولاً ان أخفي قلقي، والأفكار والشهوات المشتتة في داخلي . مددت يدي وأمسكت بيدها ، فالتقت اليدان في عناق لذيذ . لكنها بسرعة سحبت يدها
بلطف . محاولة ان تقطع على الطريق . لكي لا أتمادى معها . فعدلت من جلستي على الكنبة . وابتعدت قليلاً
عنها. وأسندت ظهري على المسند . لأكتسب الثقة بنفسي من جديد .
ثم سكبت لي الكأس الثالثة . سألتني هل تعرف آخر أخبار القتيل السوري .. ذكرت لها .. بانني سمعت من المقدم … بأنه قد تم تبرئة زوجك من تهمة القتل … وان القاضي اعتبره دفاعاً عن النفس …. وتم توقيف زوجك ليومين ، ثم اطلق سراحه . أجابتنيي بأن هذا صحيح . لكن الموضوع بدأ يتعقد الآن … . وانها من طيبة قلبها …، فلقد عرضت خمسين الف دولار على عائلة اللص السوري، لمساعدة زوجته وأولاده . لكن عائلته رفضت ذلك .. . بل انها بعد ان استلمت جثته . نقلتها الى سوريا .. . ثم قامت بدفع قرشين للطبيب الشرعي في سوريا … . فكتب تقريراً طبياً. يفيد بأن المقتول قد تلقى ثلاث طلقات من الخلف . وان الصحف في سوريا لم تتوقف عن الكتابة عن هذه القصة .. . وهناك ثلاثة فيديوهات على الانترنت . تشير الى انه كان هناك علاقة بينها وبين القتيل السوري. لقد طلبت مؤخراً من محاميها. ان يقيم دعوى على أصحاب الفيديوهات . بتهمة التشهير بسمعتها … تابعت، بأن جميع زميلاتها الفنانات يرددن الشائعات عنها، لغيرتهن منها، ومن زوجها الملياردير . كان في لهجتها هذه النبرة الفوقية. التي يستعملها حديثي النعمة . ليقنعوا الآخرين . بأنهم من الطبقة الأرستقراطية المتجذرة في لبنان.
بحكم كراهيتي اللامتناهية نحو زوجها، وشماتتي به . أجبتها بأنني اعرف بأن القتيل السوري قد أصيب بثلاث طلقات من الخلف . … وحاولت ان ألفت نظر المحقق الجنائي الى ذلك، فلم يصدقني ، ثم ان كمية الدم الموجودة بجانب القتيل قليلة جداً . …. مما أعطاني الانطباع بأنه تم تصفيته بالخارج ، ثم تم نقل جثته الى داخل الفيلا . قبل ان اكمل حديثي . لم تعد تستطيع ان تتمالك نفسها . فانفجرت في البكاء وانهارت . فتأثرت بحالتها النفسية ودموعها المنهمرة . اقتربت منها، لأصبح اكثر التصاقاً بها. دسست ذراعي برفق تحت عنقها وجذبت رأسها على كتفي ، وأحسست بدموعها تلسع وجهي، متهاوية نحو عنقي … وهي تحدثني عن علاقتها مع زوجها، والأزمة الصعبة التي مرت بها في السنة الماضية …. وان القضية سيعاد فتحها …، نظراً لتوفر ادلة جنائية حديثة …. كما تم تعيين قاضية جديدة . لإعادة النظر بالدعوى …. وجرى إبلاغ زوجها، بضرورة حضوره الى المحكمة. فور وصوله الى الأراضي اللبنانية . لأخذ إفادته مرة ثانية .. هذا الانسجام السريع الذي تابع انسيابه بيننا . دفعها لتكشف لي، في لحظة ضعفها. عن كثير من الأسرار العائلية . قالت لي باكية …. أنا اهتممت بكل من حولي .. أمي وأبي وأخي . …. اشتريت لهم السيارات ، وأعطيتهم النقود للسفر والسياحة وشم ألهوا … وعندما وقعت ، تخلى الجميع عني … ما في مصلحة … ما في حدا . وتطرقت الى علاقتها الحميمة التي عاشتها .
لم أعد أستطيع ان أسيطر على نفسي . فوضعت فمي على فمها محاولاً ان اقبلها . لكنها أغلقت شفتيها بإصرار. محاولة ان تشيح بوجهها عني . فضغطت بيدي على وجهها وجذبته الى وجهي . قائلاً لها يجب ان تطلقي زوجك لكي نتزوج . لا ادري من أين أتتني الجرأة . لكي أصارحها بهذا الحلم، الذي أعيشه منذ فترة . فأجابتني بأن زوجها من المستحيل ان يطلقها .. . وانه اذا تمت اعادة المحاكمة … فلربما تحت الضغط . قد يعترف، بأنه قتل السوري انتقاماً لشرفه . وبذلك سيدمر سمعتها وسمعة ابنتها وعائلتها …. وانها البارحة اخرجت من الزجاجة جميع الحبوب المنومة التي فيها …. وفكرت بأن تشربها دفعة واحدة …. لكي ترتاح من هذا العالم القاسي الذي لا يرحم ، ولتجنب عائلتها الفضيحة . عندما وصلت في حديثها الى هذه النقطة . تصورت كم ستصبح حياتي خاوية دونها . فجذبتها على الأرض . خلعت عبائتها ثم رفعت فستانها. حاولت ان تقاومني في بادئ الأمر. وأخذت تدفع يدي بشدة بعيداً عن جسدها ، وتمسكت بما بقي من فستانها، لكي لا ينزاح عنها . لكنني استعملت كل قوتي ضدها . مقنعاً نفسي بأنها تقاومني لتعطني الانطباع ، بأنها سيدة محترمة صعبة المنال . لكنها في الواقع . تريدني وتحبني بمقدار حبي لها . ولو انها حقاً كانت تريد إيقافي . لبدأت بالصراخ، فاجتمع علينا كل خدم الفيلا . فسرت التزامها بالصمت . بأنها موافقة غير معلنة . فاستمريت بالضغط عليها، حتى استستلمت لي . وكنت أردد لها طوال الوقت . بأنها أصبحت الآن زوجتي الشرعية، ومن حقي ان تكون لي لوحدي . بعد ان انتهينا من علاقتنا، وشعرت بأنها استمتعت بها . أخبرتها بأن عليها أن لا تقلق . لأنني على استعداد لأن أضحي بحياتي من اجلها، أو من أجل ابنتها . وانني سأجد طريقة تمكننا من التخلص من زوجها بسرعة . قبل ان تستدعيه المحكمة، لأخذ إفادته من جديد، وليس أمامنا سوى هذا الحل . ذكرتها بضرورة ان نتقابل غداً. في بيتي بعد الظهر في الساعة الرابعة، وأعطيتها عنوانه. لكي لا نثير الريبة بلقائنا مرتين متتاليتين في فيلتها. طلبت منها ان تقود سيارتها بمفردها، وان لا تتصل معي بالهاتف تحت أي ظرف ، فالخطوط كلها مراقبة .
كما يقال راحت السكرة . وإجت الفكرة . بينما كنت أقود سيارتي بالليل في هذا الطريق المشؤوم المتعرج المنحدر نحو البحر . واجداً صعوبة كبيرة في السيطرة على السيارة. بفعل الإثارة والأفكار الشريرة التي تتنازعني . خطر لي ان أتراجع عن هذه الخطة قبل فوات الأوان ، وان أخذ في الصباح، اجازة اضطرارية من النقيب . وأسافر الى قريتي في البقاع . لكي ابتعد عن هذا المشهد . لكن طيف وجه نادين. كان قد حفر اخدوداً عميقاً في مخيلتي ، ولم أعد أستطيع ان أمحيه . ان القدر هو الذي اختار لنا هذه العلاقة . وليس باستطاعتي ان أهرب منه، أو أتخلى عنها .
باليوم التالي . غادرت عملي قبل ساعتين من نهاية الدوام. ذهبت الى بيتي ، فاستبدلت ملابسي العسكرية بملابس مدنية، واتجهت الى صيدلية صغيرة في سوق الكسليك المطل على البحر. لكي لا الفت انتباه البائع الى شكلي. فيما اذا تطورت الأمور في المستقبل . اشتريت ثلاثة علب فياجرا . في كل واحدة منهن أربعة حبات عيار مائة ملغرام ، وعدت الى بيتي . جلست أفكر كيف ان الأمور انتهت بهذا الشكل، لكن ليس لدي خيار . إما أن اخسر نادين، أو أن يموت زوجها المجرم العجوز .تمنيت في هذه اللحظة ، لو انني كنت غير مناوبٍ في المغفر في تلك الليلة . فلا كنت ذهبت الى فيلتها، ولا تعرفت عليها ، هناك أشياء صغيرة متعاقبة، تحدث في حياة كل واحد منا ، بطريق الصدفة، لترسم مصيره الى الأبد . ان هذا هو قدري ، وعلي ان أتقبل به . والآن يجب التركيز علي ترتيب أفكاري . لأقنع نادين بتنفيذ خطتي للتخلص من زوجها . أننا نعرف أن الموت لا مفر منه بالنسبة لمن نكرههم . ولكن من الصعب ان نعتقد بأنه سيصيبنا أو يصيب من نحبهم .
في الموعد المحدد ، حضرت نادين الى منزلي . بعد ان اجتازت الباب .ضممتها الى صدري، ومررت بيدي على جسمها محاولاً اكتشاف تضاريسه . أخذت أقبلها على عنقها وفيها . لقد اشتقت اليها والى رائحتها . خطر لي في هذه اللحظة ان أدفعها الى غرفة نومي مباشرة . انها تحويل رغبتي بالإعجاب بها الى الرغبة بامتلاكها ، وتصورت الحياة المبهجة التي تنتظرني بعد الزواج منها . لكني خفت من ان تتصور ، بأنني أحاول ان استغلها جنسياً . فسحبت لها كرسي ، وأجلستها أمامي على الطاولة الصغيرة في غرفة المطبخ . بدأت بشحنها نفسياً ضد زوجها . كما تعلمنا ان نفعل ذلك مع أفراد الشرطة . لشحنهم ضد المتظاهرين . ذكرت لها بأن زوجها يكبرها بثلاث وعشرين سنة . لقد تزوجها ليستمتع بنضارتها وشبابها، مقابل ان يغدق عليها الأموال . ويشتري لها ماتشاء … ويسكنها في هذه الفيلا الفخمة . بالواقع انها تبيعه جسدها … مثل أي مومس عادية في الماخور . مقابل النقود . ونظراً لتجاربه النسائية الكثيرة السابقة ، فهو فضلها لأنها صغيرة وجميلة، ليتمكن من تشكيل شخصيتها ، بالطريقة التي يريدها . لكي لا تتمرد عليه. وهو لا يفكر بحاجاتها الجنسية ، وكل مايهمه إشباع نزواته منها بالطريقة التي يريدها ، ان ممارسته الجنس قسرياً معها، هو نوع من الأغتصاب … . في بداية مشوارها الفني . تصورت بأن المال هو الحل الوحيد لمشاكل حياتها ، لكنها اكتشفت متأخرة ، بأن الحب هو كل شئ في الحياة الزوجية . شاهدتها وهي تحاول ان تحبس الدموع في عينيها . لاشك بأنها شعرت بأهانة كبيرة ، عندما شبهتها بالمومس . فأدركت بأنني شحنتها بمزيج كافي، من الحقد والكراهية .
سألتها . فيما اذا كان زوجها ، يتناول حبوب الفياجرا قبل ان ينام معها . بالرغم من توقعي ذلك . لأن
الضعف الجنسي يزحف مع الرجل بالتدريج كلما تقدم بالعمر …. فأجابتني بأنه يأخذ عادة حبة واحدة . هنا اخرجت
من جيبي الثلاث علب . اخذت أشرح لها . بأنه في حالة الشخص الطبيعي ، فان الهبوط في الدورة الدموية يحدث بعد ساعة من تناول حبة الفياجرا، … وان الهبوط يزداد مع مرضى القلب . … فأجابتني بأن زوجها يعاني من تضخم بسيط
في عضلة القلب ، ولذلك يرفض أحيانا ، أخذ حبة الفياجرا . عندما ذكرت لي ذلك . فهمت بأن الأمور ستكون ، أسهل
بكثير، مما كنت أتوقع . ذهبت الى المطبخ وأحضرت صحن وزجاجتين من البيرة ، فتحت احداهما وقدمتها الى نادين . ثم وضعت تسعة حبات من الفياجرا في الصحن ، وبدأت اضغط عليها وأهرسها بقعر زجاجة البيرة ، حتى تحولت بالنهاية الى بودرة ناعمة . ثم اخذت ظرف صغير من الورق ، وأفرغت فيه بودرة الفياجرا . طلبت من نادين ان تنتبه لكل كلمة سأقولها لها .
قبل ان تذهب الى الفراش مع زوجها. يجب ان تضع هذه البودرة في كاسة عصير وتناولها له . كما
ان عليها بأن تغريه وتغويه لكي يأخذ حبتين فياجرا، من اجل تحسين إدائه معها ، وان تهدده بأنها سترفض ان تنام معه في المستقبل . فيما اذا رفض تناول الفياجرا . وتشجعه بطريقتها الخاصة ، على ان يشرب كاس أو كاسين من الويسكي، لكي نضمن نجاح الخطة . بعد ان تضع البودرة في مشروبه . عليها ان تمزق الظرف الورقي وتلقيه في التواليت . لكي تمحي أي علاقة لها بمسحوق الفياجرا . وجاء دور الموقف الصعب …. ان عليها مهما سمعت صوت أنينه اثناء الليل … ان لا تفزع وتنهار ، فتركض لتطلب الأسعاف ، لأنه في تلك الحالة، فيمكن نقله الى المستشفى ، وإدخاله لغرفة العناية المركزة ، وربما حينها يمكن إنقاذ حياته . اصريت عليها، بأنه في الصباح الباكر . يجب ان تستدعي طبيب العائلة ، والذي يعرف بطبيعة الحال، بأن زوجها يعاني من تضخم في عضلة القلب ، ليأتي الى الفيلا لأنقاذ زوجها . وأن توضح له . بأن زوجها تناول حبتين من الفياجرا قبل ان ينام معها . ومن الطبيعي حينها. ان يصدر الطبيب شهادة وفاة باسم زوجها ، نتيجة لسكتة قلبية . أعدت عليها نفس القصة مرتين ، لأتأكد من انها استوعبتها بكامل تفاصيلها .
بعد ان انتهيت من شرحي لخطتي، نظرت الى وجهها، كان جامداً ابيض . وضعت يدي حول خصرها وسحبتها ، بالرغم عنها الى غرفة النوم . بالرغم من إدراكي بأن التوقيت لم يكن مناسباً . لكنني لم استطع ان أتغلب على شهوتي الجامحة، وأتحكم فيها . فاستسلمت لرغباتي ، حتى انها حاولت ان ترسم ابتسامة اصطناعية على وجهها لإرضائي .كانت ردود أفعالها سريعة ومفتعلة . لأنها تريد ان تنتهي من هذه القصة، لتغادر شقتي بأسرع ما يمكنها ، وكأنها لا تصدق ماذا أفعل بها. بعد ان انتهيت من العملية . نظرت الى وجهها، فكان بلون الشمع ، ولم أعرف كيف أصبح له هذا اللون الأبيض الغريب . فشعرت بالاحباط والخجل من نفسي، لأنها لم تبادلني مشاعري . ولعلها اكتشفت في أعماق روحها . بأنني لا أختلف كثيراً عن زوجها، ولربما كنت أسوء منه . لم تكن مضاجعتي لها، بالنسبة لها عملية تبادل للحب . بل كانت وهماً باهتاً ، مر عليها كحلم قصير ، اكتشفت فيه كثيراً من الأشياء .
بعد ان غادرت نادين شقتي ، شعرت بالندم الشديد ، لأنني أرغمتها على هذه العلاقة . لم يكن من المفروض ان أنام
معها رغماً عنها. خطر لي في لحظتها. بأن اركب سيارتي وألحقها ، لكي أعتذر منها . لكنني أدركت بأنها قد ابتعدت كثيراً في الطريق الى فاريا. ولو اني ذهبت الآن لزيارتها في فيلتها . لأثيرت الشكوك حولنا. كما احسست بالذنب ، لأنني بسّطت لها خطتي، ولم تكن عندي الشجاعة، للإشارة لها، بأن الأمور ربما قد تتعقد بعض الشيء ، وأًن طبيب العائلة ربما يرفض إصدار شهادة الوفاة بسرعة ، وقد يحيل الموضوع الى قسم الأدلة الجنائية . بسبب خوفه من ان تكون هناك صلة بين موت زوجها، وقضية مقتل العامل السوري ، كان هدفي أن لا تصاب بالذعر، مما قد يدفعها لتتردد في تنفيذ العملية .
عندما أويت الى فراشي . كنت أشم رائحتها في كل مكان ، انه سر عطرها الذي أيقظ في داخلي كل الرغبات المخيفة المكبوتة ، والتي كنت لا أجرؤ على الاعتراف بها. لقد اكتشفت بأنني لم أكن أعرف نفسي كما كنت أعتقد . حتى بدأت علاقتي معها . لما طلع الفجر ، دخلت في نوم عميق لتهدئة أعصابي، فهناك يوماً حافلاً عند شروق الشمس بانتظاري .
في الصباح ، كانت أوامر القيادة لعناصرنا واضحة . بمهاجمة المتظاهرين بالرصاص المطاطي دون رحمة . فالأمور بدأت تخرج عن السيطرة . ولقد وقع البارحة عدداً من الجرحى بين أفراد القوى الأمنية. نظراً لاستخدام المتمردين الحجارة وقنابل المولوتوف . لم أحس اليوم بمرورالوقت، لكثرة المواجهات التي خضناها مع المتظاهرين ، وعندما عدت الى شقتي كانت الساعة حوالي الخامسة مساءً . جلست خلف التلفزيون لقتل الوقت ، وأنا احصي مرور الدقائق ، اصبحت الساعة الآن السادسة . لا شك بأنه هبط في المطار ، وبعد إنتهائه من معاملة الدخول، فسيتوجه الى فيلته في فاريا . الوقت يزحف بطيئاً بسبب الملل والانتظار. والخوف من المجهول .
قضيت أكثر من ساعتين اقلب قنوات التلفزيون، ولم أجد شيء يستحق المشاهدة ، بسب الضجر، وعدم قدرتي على التفاعل مع المسلسلات المعروضة أمامي على الشاشة. نظرت الى ساعة هاتفي، انها ما زالت الثامنة ، وأحسست بأن الوقت لا يتحرك ، وعدت من جديد الى مشاهدة التلفزيون . مر اكثر من ساعة ، ويبدو انني غفوت لبضع دقائق ، وأنا جالس على مقعدي . تخيلت بأنه الآن ، جالساً معها ، يغمرها بالهدايا، ويحدثها عن رحلته الى باريس ، ولربما تطرق بهما الحديث عن اللص السوري الذي دخل الى فيلتهما .نظرت الى ساعتي انها الحادية عشر ، فأدركت بأن الوقت بات متأخراً . لا شك بأن نادين قد اعطته قبل قليل . مسحوق الفياجرا في كأس من العصير ، ومن المتوقع أن يكون الآن في فراشه ، لأنه متعباً من هذه السفرة الطويلة . فتصورتها بأنها، قد خلعت ملابسها واندسست عارية بجانبه في السرير. لتدفعه ليمارس الجنس معها . أحسست بغيرة وبقرف فظيع من هذا الرجل . ثم شعرت بالأعياء ، لأنني لا أستطيع ان اتخيلها مع هذه الحشرة ، فأطبقت جفني ونمت .
استيقظت في الصباح منهكاً ، على صوت المنبه ، انها الساعة السابعة وعليٌَ ان التحق بالمغفر بعد اقل من
ساعة. أنها أوقات عصيبة تنتظرنا في هذه الأيام . طوال الطريق كنت أفكر كيف جرت الأمور مع نادين . وهل ياترى أصدر طبيب العائلة شهادة الوفاة . فور وصولي المخفر ، سألت الملازم الأول المناوب . فيما اذا حدثت أشياء غير عادية في ليلة البارحة . فأجابني ضاحكاً . كل شيء هاديء عَلى الجبهة الغربية. وهو عنوان لفيلم مشهور عن الحرب العالمية الأولى . فشعرت بنوع من الإطمئنان . جلست في المكتب . لا أدري ما أفعل . ترددت في ان أبعث برسالة على المسنجر الى نادين ، لأطمئن عن الوضع في الفيلا . ولكن لمعرفتي بأنه اذا تطورت الأمور. فإن شعبة التحقيقات ، ستصادر جميع الهواتف الموجودة بالفيلا ، لتشاهد ما فيها . حتى لو ان نادين أزالت رسالتي . فان عندهم التكنولوجيا اللازمة لتمكنهم من قراءة الرسائل الممسوحة على المسنجر ، كنت خائفاً من أتورط وأورط نادين معي .
عدت الى بيت بعد انتهاء الدوام ، وأنا أشعر بالضياع والخوف على نادين . جلست لنصف ساعة، فأدركت انني لم أعد أستطيع تحمل كل هذا القلق . أخذت سيارتي البيجو ، قاصداً فندق فاريا فلاج كلوب . كانت الشمس تغيب باستحياء ، كأنها تحتضر بعد عذاب يوم طويل . مغطية السماء بلون وردي ، لينعكس ضوءه على التلال المجاورة ، وعلى الثلوج في قمة جبل صنين ، فيعطيها لوناً أصفراً يشبه الذهب . مما أعطاني الشعور بالإنقباض ،وأنا في طريقي الضيق صاعداً الى فاريا .
ذهبت باتجاه الفندق ، ومررت بطريقي في الشارع الذي أمام فيلة نادين ، نظرت الى الفيلا من بعيد . كانت تبدو
هادئة، ولا يوجد فيها ما يلفت النظر . وصلت الفندق واجتزت صالته الفخمة ، وكان مكتب الإستقبال على يميني ، والمدخل المؤدي الى البار الموجود في المطعم المكسيكي الصغير على يساري . جلست على البار وطلبت من الساقي كأساً من البراندي . بدأت أراقبه وهو يتسامر مع الزبون الوحيد الآخر الجالس على البار . في العادة ان الساقي في البار مثل بواب العمارة . فهو يعرف جميع الأخبار التي تحدث في الحي . انتهزت الفرصة للتقرب منه ، واشتريت له كأساً من الويسكي . بدأت أبادله أطراف الحديث . وتطرقنا الى فخامة فندقه والى المنطقة الراقية التي يقع فيها …. لقد سمعت ان كثيراً من الممثلين والمشاهير يعيشون في هذه المنطقة الرائعة .. هز رأسه بالإيجاب .. هناك ثلاثة مشاهير يعيشون بهذه المنطقة ومنهم الممثلة نادين … المسكينة التي خسرت زوجها صباح هذا اليوم…. تظاهرت بأنني لم أهتم لكلامه … فسألته مستغرباً كيف مات ..فأجابني لا أعرف ولكني سمعت ان جنازته غداً ، بعد صلاة الظهر ، حيث سيدفن في مدفن عائلته في بيروت .
لم استطع ان اخفي فرحتي بهذا الخبر. رغبت في الإحتفال ، وكنت أتمنى لو تكون نادين معي لتشاركني بهذه السعادة . فغادرت الفندق ، قاطعاً الطريق الجبلي المتعرج ، النازل الى البحر .كان الليل بدأ يرخي سدوله وانتشرت العتمة . وخيم سكون عميق على الطبيعة وعلى كل من حولها . انه صمت الموت .انني الآن سعيداً بموته . لكن من الصعب أن اعتقد في هذه اللحظة المبهجة، بأنه سيصيبني أيضاً .
في صباح اليوم التالي ، أتصلت على جوال نادين ، وأخبرتها بأني سأحضر الى الفيلا لتعزيتها … فهالني جوابها … بصوت عادي، لا يحمل أي عاطفة حانية أو حب . ، وكأنهأ لم تكن منذ يومين قطعة مني ، قطعة من قذاررتي، وأطماعي ورغباتي الجامحة .. تابعت حديثهأ ، بأن هناك ثلاثة أيام مخصص للعزاء في فيلا زوجها المرحوم … من الساعة الخامسة مساءً حتى الثامنة ، ويمكنني الحضور لتقديم العزاء لأفراد أسرة المرحوم.وفسرت ذلك ، بأنها ربما تخشى الحديث على الهاتف لأن الخطوط مراقبة ، أو ربما كانتْ حماتها جالسة بالقرب منها . انها امرأة ذكية وهي تأخذ حيطتها الكاملة .
لم اذهب الى العزاء في الأيام المقررة . لأنني كنت لا أريد ان أواجه العجوز أم زوجة المرحوم . وخطر لي
ان شبح زوجها ربما مازال يحوم حول المنزل. لم أكن مرتاحاً لفكرة تعزية أهل المرحوم، كما يقولون لا شماتة بالموت . لاشك بان نادين امرأة ناعمة نقية ، كانت تعيش في هذه الفيلا ، باطمئنان وسلام ، مع زوجها وابنتها بيلا ، لو لم تحولها الصدمات النفسية، التي تسبب بها زوجها، الى امرأة قاتلة .
لا أدري كيف انقضت الأيام الثلاثة ، حتى اتصلت بنادين على جوالها من جديد . .. وقلت لها انني قادم اليوم
لتعزيتها بالمرحوم . فأجابتني دلال، بلهجتها الخاصة . ان حماتها الآن موجودة بالفيلا …، ولا تستطيع أن
تستقبلني، ومن المفروض ان تنتهي مراسم العزاء بعد سبعة أيام . وان تغادر حماتها الفيلا في مساء يوم الجمعة . وانتهى حديثنا على الجوال ، وفهمت منه ، انه دعوة للقاء غرامي في فيلتها في مساء تلك الليلة .
ما كاد يأتي مساء يوم الجمعة حتى انطلقت على نفس هذا الطريق الذي شهد مؤخراً ، كل أحداث حياتي الهامة ، قاصداً فيلة نادين. عندما وصلتها كانت الساعة حوالي الخامسة مساء ، والشمس قد باشرت بالغروب . وظهرت لي من بعيد بوابة الفيلا الحديدية المغلقة . على غير عادتها، وخلفها أشجار الصنوبر العالية، ومسارات الحديقة الحجرية بين أحضان العشب الأخضر الكثيف .
أطلقت زمور السيارة . لكي يحضر أحد الحراس لفتح البوابة ، بعد دقائق . ظهر رجل قصير أسمر من بين الأشجار من خلف البوابة الحديدية . ولا شك بأنه كان أحد حراس الفيلا … لأنه عرفني ، فبادرني قائلا … مساء الخير حضرة الملازم . . وتابع حديثه … بأنه لا يوجد أحد في داخل الفيلا … فسألته عن المدام نادين … فقال لي ، انها سافرت صباح البارحة الى اسبانيا … فسألته عن الخادمة الفلبينية .. فقال انها سافرت الى بلدها بعد وفاة المرحوم بيومين . ولم أعد أستطيع ان أستوعب ماذا يجري حولي . فقال لي .. ان جميع الخدم قد تم تسريحهم ودفع تعويضاتهم . ولم يبق حالياً في الفيلا ، إلا هو، والحارس الثاني أبو محمود . …. استعدت توازني بعض الشيء وسألته هل تعرف عنوان المدام في اسبانيا … فأجابني بالنفي … وقال انه يمكنه ان يعطيني تلفون عائلة المرحوم في بيروت . لأتصل معهم … لأنهم حتماً يعرفون عنوان المدام . فهززت رأسي شاكراً وعدت أدراجي الى جونية .
في تلك الليلة انتابني غضب شديد . قررت ان اسافر الى اسبانيا ، لأجد نادين . لأنني اريد ان اعرف حقيقة ما
يجري معها . فكرت في بادئ الأمر بأنها ربما كانت مضطرة لظروف لا أعرفها، على هذه السفرة . وظللت طوال الليل أفكر لأخلق لها الأعذار، وأبرر لها هذا التصرف . بالنهاية قررت انني سأحصل على عنوانها في اسبانيا بأي شكل . وسوف أبيع سيارتي البيجو الخاصة، لتأمين نفقات هذه السفرة . وإذا اكتشفت أن نادين كانت قد خططت لكي تهرب مني . فسأقتلها ثم انتحر . انه من المستحيل ان تستمر حياتي دونها .
بعد عدة محاولات لم استطع الحصول على عنوان نادين ، فاكتشفت بأن الأمور أصعب بكثير مما كنت أتصور . حتى ان فكرة الحصول على اجازة لمدة أسبوعين مستحيلة. في هذه الظروف التي تعيشها البلد . بدأت أفكر بماذا سيكون مشاعر امي . عندما تسمع بأن ابنها قد أقدم على الانتحار في اسبانيا من أجل أرملة سيئة السمعة . أخذت همتي تضعف مع مرور الوقت ، لفكرة السفر الى اسبانيا . بعد أسبوعين تقريباً بينما كنت جالساً على مكتبي بالمخفر استلمت على المسنجر الرسالة التالية
مرحباً سعيد
كان بودّي ان أودعك قبل سفري الى كندا . لكنني كنت مشغولة جداً بالعزاء . وانهاء بعض المعاملات . وصلت منذ فترة ، وسجلت ابنتي بيلا منذ يومين في المدرسة . ونتطلع لبناء حياة جديدة هنا . في هذه البلاد الرائعة . أرجو ان تكون أمورك جيدة، وان تتمكنوا من السيطرة على الزعران الذين يدمرون لبنان. أتمنى لك ان تجتمع قريباً في لبنان مع البنت الملائمة لك ، لكي تتزوجها وتعيشان في سعادة وصحة دائمة .